أرضنا الطيبة.. توشمنا بالصبر

الوحدة 7-7-2021

طقوس كالعبادة لها صلاتها المحفورة على أعمدة ذاكرتنا مذ كنّا صغاراً، رسوم لوغاريتمية، أسيّة، لا تُدَرك لكنها تُحَس.

عندما رأينا البيدر المتواضع، تلة صغيرة بارتفاع نصف متر من التبن، في إحدى قرانا المعطاءة، مشهد كأنما تعثّر بتلافيف ذاكرتنا، (يا مين يرجعني صغيرة وياخد مالك يا دني)

ما كان ذلك إلا رمشة جفن، نتحلق فتيات وفتية حول الحصّادة (الداروسة) نرمي (الشميلات) في فوهتها، كهدّافي سلة ونتسابق لمشاهدة القمح وهو ينفصل عن أمه السنبلة، في كيس الغلة.

غابت عن أطفالنا تلك الطقوس، الزرع فالحصاد فالدرس فالسلق والجرش والتعبئة في عنابر البيت الطيني.

نتحزّر عن صاحب البيدر الذي يحكم درسه مع موعد الغداء، ثم نحسب الزمن الفاصل لمن سيتزامن درس بيدره مع وجبة العشاء.

ثمة بيت كان معروفاً ببخل أصحابه على غير عهد أهل الريف الكرام، يصادف (درسهم) كل عام مع حلول العصر، فيفلتون من التزام الإطعام.

سهيل تقلا..  اسم احتكر موسم (الدراسة) سنوات بداروسته العجوز التي بقي يجوب بها قرى الميسة والعزيري والجوفية و… لعقود وعقود، عندما كان القمح والشعير موسمي الريف الرئيسيين، أتذكره كطيف، نحيل الجسم، يشبه صيادي السمك، يعتمر قبعة في وقت كان العقال والكوفية الزي الفلاحي الدارج.

الرجال الذين يلقمون الفوّهة (عيرة)، جميعهم من الجيران والأقارب يعينون صاحب البيدر من جيرانه وأقربائه، ويرد لهم العيرة في مواسمهم، يستمر الهرج والمرج أشهر الصيف الثلاثة، الجميع منهمك بتلقيم فوّهة الحصّادة (الداروسة)، النسوة مشغولات بإعداد الطعام، بينما تراهن العجائز على عدد الأكياس التي ستنتفخ بطونها بالقمح، كان الشبان على البيدر يتململون تعباً، وهم يرمقون شزراً البيدر المتكدس، الخير عميم، ساعات من الدرس المتواصل والتلة لم تنخفض النصف، نحن بشقاوتنا المعهودة كنا نراهن أن بيت البخلاء ذاك سيصيبه كعادته حظ كل عام.

أين الماضي من الحاضر الآن؟ عشرة كيلوغرامات بذاراً أنتجت ١٥٠ كيلوغراماً شعيراً، وهبته إياها الأرض الطيبة، لم أخبركم أن إحدى عشرة من دجاجات صديقنا أبو عهد خطفها (الجقل).. كانت خسارة لم يندب حظه لملمّته بها، بل سارع للتجرّد من نحسه بشراء بقرة بلدية حلوب قالوا إنها تحلب ٦كيلوغرامات لكن من اشترى منه غشه، هما كيلوان اثنان أو ثلاثة على أبعد تقدير، يقارع من جديد حظه السيّء دون أن يبتئس.

يتجوّل الرجل الستيني بين حيواناته، يعرف أن الحياة تعانده ويعاندها، وقد انتصر عليها فقط عندما وشم نفسه بالصبر.

يقول الرجل المجهَد لزوجته المتعبة التي يتغذّى السكري من قدمها بينما ابتسامته تتكسّر على وجهه المجعّد وهو ينظر إليها بحنان: (كوني بخير فإن خالفنا الحظ اليوم، لابد سيتحالف معنا غداً، أتعب كي يفرح أولادنا،  فما بعد العسر إلا اليسر). فلنتعلم من أمثال هؤلاء فالريف يعمر بأهله الطيبين.

خديجة معلا

تصفح المزيد..
آخر الأخبار