الوحدة 16-6-2021
كثيراً ما يتم الخلط بين مُصطلح الفكر ومفهوم الثقافة، ويتم بذلك استخدامهما كمترادفين، ولا يتم التمييز بين الفكر والثقافة، وبين المفكر والمثقف، ولا تُقدم الموسوعات و نفائس الكتب تمييزاً واضحاً بين مصطلحي الفكر والثقافة، وقد تم تعريف الثقافة التي تعني التأدب والذكاء في قاموس اللغة وشتى المعاجم والموسوعات بأنها لفظ شائع الاستخدام، ويُقصد به مجموعة صفات كالمعرفة والبصيرة والذوق السليم، وكل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لمَلَكة النقد والحكم لدى الفرد، أو حتى في المجتمع، ويُعرف الرجل المثقف بأنه ذلك الشخص الذي يجمع ببراعة بين تلك الصفات أو يقترب منها، وأما الفكر فهو حالة من أبحاث علوم النفس، ويُعد عملية عقلية تهدف إلى كشف حقيقة كل مشكلة من المشاكل التي تعترض الإنسان، ولهذا كان التفكير من أوضح الصفات التي ينفرد بها المرء، ويحتاج التفكير إلى استجماع لتجارب الإنسان الماضية، وأيضاً إدراك نوع العلاقات بينها في ضوء حقيقة ماثلة أمام الفرد، فكل عملية تفكير هي في صميم الحقيقة استخلاص حقيقة جديدة من ثنايا حقيقة قديمة أو جملة حقائق، ومن المُلاحظ للعيان تطرق بعض التعاريف إلى تحليل لبعض العلميات الفكرية، وترك الحديث عن ماهية التفكير، والاستدلال عليه بالنظر في بعض أمثلة العمليات الفكرية كالاستنتاج أو الاستنباط كونها عمليات فكرية وليست هي الفكر بحد ذاته.
لكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية، ويفرق بينها وبين الحضارة على أساس أن الأولى ذات طابع فردي، وتنصب خاصة على الجوانب الروحية، في حين أن الحضارة ذات طابع اجتماعي ومادي، و بما كان من الضروري القول بأن أي ثقافة تشتمل على اتساع المعرفة والوعي لا يجب أن تنفصل فيها ثقافة الفرد عن ثقافة مجتمعه، كون التوافق مطلوباً وضرورياً وحتمياً بين طبيعة الفرد ونسيج مجتمعه المحيط به، وعلى الضفة الأخرى، وبوجه عام، فالفكر هو أسمى صور جملة الأنشطة الذهنية من عاطفة ووجدان وإرادة واستنارة وتحليل وتركيب وتنسيق، وعلى أي حال فإن الاستدلال على معاني الفكر بعبارات وكلمات شعورية ولفظية يترتب عليه استخلاص نتائج مختلفة المدلولات في معاني الألفاظ المستخدمة.
من المُلاحظ أنه مع إدراك الفرق بين المفكر (المبدع الذي يستطيع بتأملاته الخروج عن دائرة المألوف ويرى من أبعاد أي موقف ما لا يراه باقي الناس) والمثقف، فإنه من الضروري جداً تصور علاقة الفكر والثقافة بالحضارة، إذ أن كثيراً من الناس يتصورون خطأً أن الثقافة هي التي تصنع الحضارة أو هي علامة عليها، وأن المثقفين هم روادها ومبدعوها، ويقيسون تحضر المجتمع بما فيه من مثقفين، والحضارة بمظاهرها المتعددة من فلسفة وعلوم وآداب وفنون يبدعها الفلاسفة والفنانون والعلماء و الأدباء، وفي كلمة واحدة يبدعها الأفراد في كل ميدان من تلك الميادين، ومما لا شك فيه بأن ظهور الفكر الجديد والمنهج الجديد هو نقطة البدء لأي حضارة ناشئة أياً كانت، ومن الضروري أن يُقر في الأذهان الفرق بين وجود فكر وحضارة، وبين توفر ثقافة ومدنية، فالأولى علامتها الإبداع، والثانية علامتها الاتباع، كما أنه من الهام جداً المفاضلة بين كل من الحضارة والمدنية، ويكمن لُب الفرق بينهما في أن الحضارة تتمثل في ازدهار المظاهر التي ذُكرت آنفاً دون التساؤل عن منفعتها الملموسة، ومدى ما تحققه من إشباع مادي، وأما المدنية فهي تبدأ وتبدو وتتضح حين السؤال عن تلك المنافع المادية التي تُجنى من تلك المظاهر وكأن لمظاهر الحضارة كافة جانبها المدني التقني النفعي مضافاً فعلاً إلى جانبها الحضاري، ومن الواجب التنويه إلى أن الكثير من أهل الفكر والتحليل أشاروا إلى أن وصول الحضارة إلى المدى النهائي في إبداعاتها وتحولها إلى مدنية فهذا يعني بداية انحلالها وكأن لغز المدنية هو مرحلة انحلال الحضارة وتصدعها وانهيار أركانها.
د. بشار عيسى