وقال البحر..المُدن القديمة…

الوحدة : 10-3-2021

من المعروف أن للمُدن صغيرة أو كبيرة تواريخ وتأريخاً، فبعضها انفتحت نوافذها على البحر و بعضها الآخر تموقع في قلب البلاد والبعض منها فرضت عليه ظروف تاريخية أو أوضاع سياسية حادة التموضع داخل أسوار عالية في محيط قلاع لها بوابات تُفتح في النهار وتُغلق في الليل، و بمرور الزمن تكبر المُدن وتتسع حجماً وتطولها يد التطوير التي تُغير من بعض ملامحها فتفقد شتى المُدن القديمة بذلك الكثير من ملامحها الأصيلة وقصصها الفريدة و تتبدل أنماط التواصل الاجتماعي وتختفي عادات وتندثر قيم نادرة اتسمت بها أرواح ووجوه بشر تلك المُدن، ويبقى الإنسان الذي عاش أجواء المُدن القديمة في حنين دائم لها وكلما شعر بالاقتراب من المرحلة الأخيرة من حياته ازداد حنينه فيرجع لا شعورياً إلى الماضي ليبحث بين طياته عن طفولة عاشها وعن ذكرياته المخبأة في كل الزوايا وشقوق الجدران وعن روائح وملامح أمكنة البشر والتي كانت تلتقطها العين دوماً في الرواح والإياب.

إن العلاقة بالمُدن القديمة هي العلاقة الحميمية بالمكان والزمان الذي تكَون فيه النسيج الأول واكتسب فيه الإنسان عاداته متأثراً به ومؤثراً فيه وفي محاولة لاستعادة شكل المُدن القديمة وأزمانها قد لا تُرى الصورة واضحة تمام الوضوح فالزمن يفصل بحدة بين ناظر المرء وبين الصورة بما يشبه الفلتر وبدوره كل إنسان بحسب سماكة فلتره يرى ويُوقد جذوة ذاكرته، وإذا كانت ذاكرة الإنسان العادي لم تلتقط صورة المدينة القديمة وكل ما يرتبط بها بشكل دقيق فإنها على العكس تجذرت في وجدان وفكر المبدع ولذلك فالكثير من المبدعين الذين كتبوا سيرهم الذاتية اهتموا بتسجيل دقائق تاريخ كل المدن التي عاشوا فيها لأنها المنبع الأول الذي تشربوا منه وانعكست عليهم أيضاً أحداثه السياسية والاجتماعية والفكرية فأثرت فيهم تأثيراً بليغاً، ومن المُلاحظ أنه حين كتب الغالبية من نخبة الأدباء والشعراء عن مُدنهم القديمة كانت مفاتيح  دوافعهم هي الحب العميق ولذة سحر الحنين الجارف لملهى الطفولة وحكايات الصبا والشباب ولم يستعيروا مادتهم من قلب الكتب ولم يُؤلفوا أو يُسجلوا ما شاهدوه وعاشوه تسجيلاً سردياً وصفياً جامداً بل كتبوا بتلك العلاقة الروحية أو الإنسانية التي ربطتهم بمُدنهم الحالمة ومعطياتها التي ساهمت في تشكيل مكنون إبداعهم فصار الإبداع جزءاً مهماً من فعل الكتابة وكانوا أيضاً مثال الوفاء لجوهر المكان والزمان فبعثوا بهذا نبض الحياة في المدن المنسية ونقلوا بأمانة ذاكرة أجيال سابقة إلى أجيال حالية لا تعرف عن ماضي مُدنها إلا بعض ملامح أشياء تُشبه الضبابيات البعيدة.

كل الكتاب الذين كتبوا سيرهم أشاروا الى وجود المكتبة وأهميتها وتناولوا العلاقة التي تشكلت بينهم وبينها وقد كانت القراءة فِعلاً يومياً حيث قرأ أكثرهم كتب السير والتاريخ وأدب المهجر والعقد الفريد والأغاني، وكانت روحية المدينة القديمة تحث على القراءة والأجواء التي عاشها ناسها حرضتهم فعلياً على تثقيف أنفسهم و فرضت عليهم سُلوكاً رزيناً وحكيماً في عمر مبكر، ومع الكتابة عن المكتبات فقد تمت الكتابة أيضاً عن أماكن التعليم بدءاً من الكتاتيب ثم إلى المدارس البسيطة التي اندفع إليها جيل الصبية بشغف ورغبة مع الإشارة إلى أهمية المعلم وتقديره وذكر فضله الكبير في عامل التهذيب والتشجيع، وفي استعراض لشخصيات المُدن القديمة يجد المتابع بأنها شخصيات ذات سمات وطبائع مختلفة بعضها له أفعال غرائبية تُثير الحزن والشفقة وفي نفس الوقت قادرة على إثارة الرعب والفزع في أزقة المُدن القديمة، وإن كان كُتاب سير تلك المُدن القديمة قد عرجوا على ذكر وتحليل بعض عناصر الشخصيات من قبيل وصف دقيق لحياة الناس فإن الكثير من الأدباء قد استفادوا من هذه الناحية واستثمروها لتتحول معهم إلى صور أبطال لكثير من أعمالهم الأدبية والفنية مما يُؤكد عمق العلاقة الحميمة بين الكاتب وبيئته التي تشبع بها وساهمت في تكوين عنصر موهبته الذاتية لتأتي معظم كتاباته صادقة ناضحة بعطر الواقع الذي عاشه حقيقة على عكس كل من يتقصد في هذه الأيام دس بعض الكلمات القديمة في جوف قلب النصوص أو ذكر بعض أسماء مناطق وهمية تم مجرد السماع بها أو القراءة السطحية عنها.

المدينة القديمة أحياء متلاصقة وشوارع متفرعة دون انتظام ومحددة عشوائياً بالجدران العالية أو المنخفضة أو حتى المستقيمة ويظللها الشجر وفيها أزقة وزواريب ضيقة تتفرع منها أروقة فرعية نهايتها غالباً ما تكون مسدودة، و أما البيوت فهي في كل المُدن القديمة متشابهة إلى حد كبير وبالنسبة لأسواقها فالجو العام فيها مُتشابه غالباً فمعظمها مسقوف ومُتلاصق على غير انتظام وفي بعض الأحيان أسواقها طويلة تتفرع منها أزقة ودروب وحارات داخلية، ولا تخلو مدينة قديمة أبداً من مصطلح ما يُسمى عامياً بسوق الجمعة وهذا السوق الذي يُقام في فسحة كبيرة تتنوع فيه ذاخرة كل أصناف البضائع والأدوات و الملابس ومستلزمات الحياة المختلفة ولا يخضع هذا السوق لنظام سعري أو أوزان أو أية مقاييس ويرتاده القاصي والداني دون استثناء، ولا تزال غالبية المدن العربية تُحافظ على وجود هذا السوق حتى يومنا هذا، كما لا يخلو أيضاً سوق أي مدينة عربية قديمة من مصطلح المقهى فقديماً كانت المحطة الأولى التي يؤُمها القادم إلى المدينة هي المقهى وهو مقر التقاء التجار ورؤساء العشائر ولم يكن مكاناً لتبادل الأحاديث والاستماع إلى القصص فحسب بل هو المكان المميز الذي تُعقد فيه الصفقات التجارية والمصالحات بين المختصمين وتُتداول فيه أخبار البلاد والعباد وأحاديث السياسة وآفاق الفكر ويقرأ الشعراء قصائدهم ويُطلق الظرفاء نوادرهم ويسرد الحكواتي قصص التاريخ القديم من الحكايات وروائع الخيالات، ولا يخفى على المُتابع بأنه ما زالت لروحية المقهى مكانته القديمة ولكن التغييرات الحديثة وملامح الحياة العصرية غيبت بعضاً من ملامحه فغاب من أمام واجهته العديد من الشخصيات وظلت من رواده ثلة من المثقفين والشعراء، ويُقرع جرس الذاكرة ليُوقظ في ذهن المرء بعض صور أسواق المُدن القديمة والعتيقة كسوق الحريم وحمام السوق العمومي وكذلك عمارة بعض الجوامع الأثرية التي أصبح بعضها مزارات يتناقل فيها الناس كرامات تُروى وعِبر تُحكى فيُقبلون عليها طالبين البركات.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار