الوحدة : 19-2-2021
على العكس من غيرها مع مشارب المعرفة وألوان العلوم تقوم الإدارة على مجموعة من القيم الإنسانية والمهارات العقلية التجريدية قبل قيامها على مجموعة منوعة من الأدوات العلمية، ويُقال بأن ممارسة الإدارة قديمة قدم الحضارة الإنسانية نفسها وإن كان علم الإدارة حديثاً قياساً معها والإدارة تعريفاً ببساطة هي طريقة تفكير وأسلوب اتخاذ قرار ولذا فهي مجموعة أفكار يتم تبنيها لتحقيق الأهداف المرجوة من خلال الآخرين أو لاتخاذ قرارات حاسمة ولازمة للاستجابة لموقف معين وهذا يعني أن نقطة البداية في نمو وتطوير الإدارة لا تكمن في إدخال تكنولوجيا جديدة أو تطبيق واستخدام أداة علمية و معلوماتية بقدر ما تستند إلى مدى توافر قيم إدارية إيجابية سواء كانت سلوكية أو فكرية.
بحكم أساليب وأُسس التنشئة الاجتماعية ومناهج التربية وخطط التعليم وبحكم الأطر المعرفية التي يستند إليها في تقرير مصيره، فقد بات العقل يتسم بمجموعة من الخصائص التي تمنعه من تكوين نظرية خاصة للإدارة وتوقفه عند حد الدراسة والتحليل والتشخيص والجدل ويرجع هذا كله في الغالب عموماً إلى مجموعة القيم الإدارية التي ينمو عليها العقل و يترعرع ومن هذه القيم على سبيل المثال لا الحصر:
– التلقين أساس التعليم.
– البراعة اللغوية.
– فنون الجدل والتلاعب بالألفاظ.
– تداخل وامتزاج المشاعر والأحاسيس وصعوبة التمييز بين الذات والموضوع.
– الحساسية المفرطة لتوجيه النقد.
– تنفيذ تعليمات المستويات الأعلى دوماً.
– البحث عن القصور والنقص في أي إنجاز مهم والبراعة في اكتشاف مكامن الخلل والتقصير.
– تصيد الأخطاء ونسيان إنجازات الماضي.
– الافتقار إلى دبلوماسية الرفض أو التفاوض.
– استخدام وتداول قاموس العبارات والألفاظ المُجهضة لأي حوار.
وتبدأ هذه النماذج السلوكية السلبية في الظهور على السطح بوضوح عند تولي البعض لمناصب إدارية أعلى وأهم مع تلازم ذلك بالمسؤولية عن أشخاص آخرين يُستفاد من جهودهم وإمكاناتهم لتحقيق أهداف الإدارة.
رغم أن نقطة البداية تكمن في قيم الإداري لا في مهاراته فإن تجارب الفشل تفوق التجارب الناجحة كماً ونوعاً، كما أن التجارب الإدارية الناجحة جاءت بتكاليف أكبر مما كان متوقعاً ومخططاً لها مما ينتهي بها الحال إلى اقتلاع آثار خطوات وبصمات الوصول لفكر إداري متميز، ولعله من أبرز السلوكيات التي تُحدد إطار السلوك الإداري والقيادي للعقل و الفكر يتجلى في:
– الاهتمام بالجزئيات أكثر من الكليات: يُشعر المرء في الأجل القصير بالإنجاز إلا أن هذا الإنجاز قد ينتهي إلى هدف أو نهاية تختلف عما كان مقصوداً عند البداية وهنا يقع العقل في مأزق تقليدي معروف باسم مأزق التجربة والخطأ فيعود مرة أخرى لإعادة دراسة الوضع الذي انتهى إليه ويُسارع بتنفيذ المسار الجيد فقط ليُشبع رغبته في الإنجاز.
– تفضيل الإنجاز على التأمل والتخطيط: يَشعر العقل بطبيعته بثقل التأمل والتفكير مع الأدوات العلمية الخاصة بالتنبؤ وتحديد المسارات المستقبلية ويميل إلى الإنجازات السريعة أو حصاد الأسبوع كبديل يشعر معه بالتقدم وتحقيق الأهداف وهنا يسقط العقل في المأزق الإداري المتمثل بالخلط ما بين النشاط والنتيجة فكثير من الجهود الإدارية هي أشبه بمحطات لاحتراق الوقود أكثر من كونها محطات لتوليد الطاقة فمحور الاختيار الدقيق أمام العقل هو اختيار ما بين نشاط يود القيام به وبين دور يجب عليه تأديته.
– الإبداع والابتكار: يتميز العقل بالتخيل والخيال الذي قد يدفعه إلى أن يأتي بأفكار ابتكارية رائدة إلا أن نسبة ما يُطبق من هذه الأفكار مُقيد بمدى توافر الرغبة والقدرة على تحمل المخاطرة وتكاليف التعامل مع غير المألوف ولذلك فإن ابتكار العقل في الإدارة يتوقف كثيراً عند حدود الفكرة ويفتقر إلى الجسور التي تنقل هذه الفكرة إلى التطبيق أو الواقع المؤسسي.
– الفرد لا الجماعة: إن روح الفريق والقيم الاجتماعية المشتركة وقيم المشاركة في العمل وفي النتائج هي التي أرست قواعد الإنتاج والإيجاز في الفكر الإداري، كما أن تأكيد التمسك بالروح الفردية يُدمر قيم العمل الجماعي وينشر مفاهيم الصراع وأيضاً ينزع سلوكيات التعاون وروح الفريق.
– التوثيق لا التذكر: تميل العقلية عموماً إلى الاعتماد على ذاكرتها لا مستنداتها وتثق في قدرتها على التذكر بالرغم من أنها تعتبر حالة النسيان نعمة في الوقت نفسه، والعقل يُدير حاضره من ذاكرته أكثر مما يُدير مستقبله من تقاريره مع افتقاره لأداتين مميزتين أولهما تقارير متابعة تقدم العمل وثانيهما نُظم العمل.
– التفكير في الأزمة لا الفرصة: إن اتباع هذه الطريقة في التفكير يعتمد أساساً على ملامح مجموعة من الافتراضات السلبية التي تُهدر بها طاقة الإدارة وهذه الافتراضات تقوم على العديد من القوى النفسية المعوقة للإبداع والابتكار ومن هذه القوى الخوف من الفشل الإداري وتوجس الشر من الأقران في العمل والبحث عن أجدى المناورات الوظيفية لضمان الاستقرار وسرقة أفكار الموظفين ومحاولة قهرهم نفسياً للسيطرة على دعمهم الإداري والاجتماعي، وكل هذه القوى السلبية تُقيد القدرات الذهنية وتشحن الذاكرة بكم هائل من الوظائف السلبية التي تُمثل مستقبلاً مجموعة من الجنادل التي تعوق تقدم وإبحار سفينة الفكر الإداري.
التربية الإدارية هي نقطة البداية الرئيسية في تدريب علم ومناهج الإدارة كما أن المناهج الرائدة والنماذج المُشرقة في مجال علوم الإدارة قد تكون الركيزة الأساسية لبناء كوادر إدارية قيادية وواعية و تُفكر بإيجابية وتأخذ قرارات مستقبلية تستند إلى لُب المعرفة من ناحية وتتمتع بسلوكيات التعامل الحضاري من جهة أخرى، ومن المعلوم بأن الإدارة علم الحياة وفنها والقيم الإدارية هي بحد ذاتها نقاط الانطلاق للإنجاز والتميز الفعلي والتفكير الإيجابي ومواكبة معدلات الأداء الإداري المتسارعة صعوداً، ومما لا شك فيه بأن تدريس الإدارة كعلم تحت مسمى التربية الإدارية هو المُنقذ الحقيقي والمخرج المناسب من دائرة التجربة والخطأ بغية تكوين عقل علمي وإداري قادر على الملاحظة والتفكير والتسجيل أكثر من الاعتماد على الذاكرة وكذلك الاعتماد على الحواس أكثر من الاعتماد على الحدس إضافة إلى قيامه على التأصيل لا التبرير والتنظير، وفي المُحصلة لكل هذا يرى المرء المُتابع بأن الإدارة لغة حياة وتخاطب وتفكير وإنجاز ويجب فعلاً التعامل معها باعتبارها أحد المخارج العملية الرئيسية لدعم كيان الوطن حضارياً واقتصادياً واجتماعياً.
د. بشار عيسى