الوحدة 10-2-2021
يقال : إن الروائي العالمي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز في آخر حياته كان قد أصيب بمرض الزهايمر، و ذات مرة زاره في المشفى أحد أصدقائه، و عندما جلس بقربه نظر إليه ماركيز قائلاً: أنا لا أعرفك لكنني أحبك. هكذا يفتك الزهايمر بأركان الذاكرة فيقضي عليها، لكنه لا يستطيع النيل من المحبة. لأنها راسخة في الصدور التي تستحقها أيّما رسوخ. و ربما كانت هذي المحبة أقدس معنى من معاني الإنسانية، وأرقى ما تكتنفه الروح البشرية من مكنونات الوجود منذ فجر الحياة. لم يستطع الزهايمر أن ينال من محبة ماركيز لصديقه الذي نسيه و غاب عن فضاءات ذاكرته، و كأن محبة الصديق مثل غيرها من مشاعر القلب الصادقة تلتصق بالروح، فلا تحيد عن رسوخها حتى تغادر الروح الجسد. هي ذي الصداقة الحقيقية، و كعهدي ما حييت أراها ارتباطاً روحياً مقدساً يسمو فوق كل شيء مادي، فلا ينال منه واقع النفس البشرية الأمّارة بالسوء، و لا نزوع كثير من البشر إلى السلوك النفعي، البعيد كل البعد عن رقي المشاعر الإنسانية. الصداقة عطاء بلا حدود من دون انتظار أي مقابل، فمن يزرع الحب و الإخلاص و التفاني سيحصد لا محالة أضعاف ما زرعه حباً و وفاء، إذا ما قيضت الأقدار له روحاً نقية تثمن عالياً المعاني الشفيفة للصداقة كما المحبة. أغلب الناس في يومنا هذا تشكو قلّة الأحبة و الأصدقاء، فهل يعني هذا أن التقصير هو بطبيعة الحال من الآخرين؟! أكاد أجزم أن التقصير يبدأ أولاً من الشخص نفسه، لأن الجميع يريدون المحبة و لكن لا أحد منهم يريد أن يمنحها أولاً، فيبادر بالعطاء و الصدق. هناك من قال :إن المرأة و الوطن وحدهما يستحقان المعارك الكبرى. و لكنني أضيف إليهما الصديق أيضاً. لأن الحروب العظيمة تقوم فقط من أجل القيم الكبرى. كيف لقلب لا يقدّس الصداقة أن يخلص لعشق شريك أو لعشق وطن؟! كم خضنا من معارك من أجل أصدقاء لم نتقن اختبار صدقهم فسقطوا من حياتنا أمام أول مصلحة دنيوية آنية! و كم كان قليل منهم يستحقون أن نخوض من أجلهم أشرس و أعتى الحروب بما غمرونا به من حبّ لا متناه و إخلاص و تفان في عطاء يليق بأرواحهم الراقية التي تشعّ نوراً و عطراً. قالت لي عجوز مسنة ذات صباح: عليك يا بنتي أن تختبري أصدقاءك خير اختبار، فتدركين حقيقتك في قلوبهم. كنت و لا زلت لا أتقن فن الاختبارات و سبر أغوار الصدور يا جدتي الطيبة، ربما لخوفي من أن تصدمني الحقيقة بقسوتها مع بعضهم، لكنني أؤمن حد اليقين بأن الأوراق اليابسة ستسقط لا محالة أمام أول هبوب للريح، فيكشف ما في الصدور. أكتب اليوم عن الصداقة لأريح صدري مما تكابده روحي من جرح ربما لن يندمل. أكتب اليوم لتحتضن روحي أصدقائي الأوفياء الذين يغمرون حياتي بنور المحبة و دفء الحنان، يهبون نهاراتي الفرح، و لياليَ الأمان و السكينة. من يزرع الريح سيحصد العاصفة أيها الأشرار، و من يزرع البر و المحبة ستهديه السماء ذات يوم أرواحاً طافحة بالخير و الحب و الصدق. وسأبقى دائماً ممتنة للأقدار التي أحاطتني بصدق و نبل مشاعركم، أصدقاء الروح على مدارج الأبدية.
نور محمد حاتم