وقال البحر الموروث الثقافي…

الوحدة 27-1-2021 

 

أثار مصطلح الموروث الثقافي جملة تأملات وأفكار كثيرة، ولذا يجب التمييز بدقة بينه كتُراث يجب المحافظة عليه، وبين الذهنية المناهضة للتجديد أي أيديولوجية التمسك بالتقاليد، ومع الإيمان الواضح جداً بأن فكرة الموروث الثقافي أمر حيوي بالنسبة لكل مجتمع يعي هويته وتاريخه، ويمتلك زمام مصيره، وانطلاقاً من مبادئ راسخة تُؤكد دوام التراث الثقافي، فإن أهم عمل يجب القيام به لتثبيت تفوق التراث في قدرته على ضمان انتقال أفضل نحو التقدم هو تغيير العلاقة بين الشعوب وموروثها الثقافي إلى الحد الذي تتمكن فيه من تجاوز وتجنب مجمل المظاهر المحافظة لتتوجه نحو تنمية سليمة نابعة من جوهر موروثها الثقافي، ومن المُلاحظ بأن هذا الموروث يُشكل قوة دينامية في ميدان التنمية بكل الصور والأشكال، ويشمل أبعاداً متعددة تُرسم كخطوط عريضة لسلكها كنهج يتجلى فيما يلي:

– البُعد الاجتماعي الذي يتعلق بتفاعلات الأفراد والقواعد الاجتماعية والقوانين والعادات.

– البُعد الفكري وهو البُعد الذي يُعطي هيكلاً للتفكير ومنظومة القيم كما يُعطي أيضاً قاعدة لأصول الخطاب العقلي وحُدوداً لقدرات التحليل والفكر المجرد.

– البُعد الاقتصادي الذي يُحدد وسائل الإنتاج والتقنيات المُتبعة في التبادل الاقتصادي، كما يُحدد هذا البُعد القيم والمعايير التي تقف وراء الاقتصاد وتُحركه من الكواليس.

في واقع الأمر لا يوجد شعب بدون موروث ثقافي، وليس من الممكن إيجاد بنية تنمية بدون أن تكون متجذرة في الموروث الثقافي وواقع هذا الشعب، ولعله من المعلوم بأن هذا الموروث لا يمكن أن يُعطي حلولاً لصيرورة التنمية إلا إذا أُعيد تأويله والتفكير فيه مع وجوب إعادة صياغته بشكل مدروس ذلك بأن الموروث الثقافي حتى ولو كان تُراثاً فاعلاً فهو ليس فوق النقد، وليست كل عناصره مقبولة وغير قابلة للرفض والتحفظ، ويُلاحظ بأن الموروث كسمة اجتماعية وثقافية ضروري جداً لتنمية الشعوب تنمية أصيلة تحترم بيئتها الفكرية والثقافية، وتحفظ خصوصياتها، وما تتميز به، وفي حال تم أخذ الموروث الثقافي كأيديولوجية فسيكون سلاحاً ذا حدين، فكما يمكن أن يُسخَر من أجل الأسوأ، فيمكن أيضاً أن يُسخر من أجل الأفضل، وكما يمكن أن يُستعمل كقوة محافظة، فيمكن أيضاً أن يُستعمل كقوة دينامية، إذ الأمر هنا يتعلق بالأشخاص الذين يتقلدون سُلطة تسخيره، والأهداف المرجوة من ذلك، ومن هذا المُنطلق يُمكن القول بأن النخبة المثقفة يمكنها المساهمة في هذه العملية من خلال التوعية الشعبية، وشرح مدى المساهمة التاريخية والثقافية والتقنية والعلمية في الحضارة الإنسانية، وفضلاً عن ذلك كله فيمكن لهذه النخبة الفكرية المثقفة إعادة بناء تصور جديد لعلاقة الشعوب بموروثها الثقافي وتقوية الوعي بذلك الموروث مع ضرورة محاولة ردم الهوة التي تفصل بين الفئات المثقفة وعموم جماهير الشعب في عدة مستويات ثقافية واجتماعية.

تُعد الطرق المُتبعة في إعادة تأويل الموروث الثقافي لجعله مقبولاً لدى عموم طبقات المجتمع تُضاهي أهمية الدرجة والمرتبة التي يحتلها من يقومون بعملية التأويل أنفسهم و عليه يتولد مجموعة أسئلة هامة تُوجز في:

– ما مدى الإمكانية للقيام بعملية إعادة التأويل بكيفية عفوية إما اعتماداً فقط على وعي النخبة وحدسها أو اعتماداً على إيمان أفراد الشعب بالمشيئة الإلهية وإلهامها لعموم البشر.

– ما إمكانية إعادة تأويل الموروث من منظور تطوري وعبر تغيرات تصاعدية تسير في استمرارية خطية.

– ما نسبة قابلية إعادة تأويل الموروث الثقافي عبر عملية ترقيع الشبكة الاجتماعية بأي أيديولوجية مناسبة تملأ الفراغ وتسد الثغرات لإعادة ترتيب بنية مجتمعية سليمة.

– ما طبيعة الأساليب الأيديولوجية والفلسفية وأشكال التوجهات والخيارات المتوفرة التي يمكن استعمالها في سيرورة هذه العملية.

وتُعطي هذه الأسئلة فكرة عن أنماط إعادة تأويل الموروث والتي كانت موضوعاً للنقاش والتأمل مُؤخراً، وتُعد مجمل هذه الأنماط انتقائية وتستمد مبادئها من التقاليد بنفس القدر الذي تستمده من مشارب الثقافة التي تُقر حقيقة بأن أمر إعادة الاعتبار للموروث الثقافي أصبح ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، وواجباً يفرض نفسه على قطاع النخب الفكرية في كل مجتمع.      

لا بد من إدراك أهمية الموروث الثقافي كقوة دينامية حقيقية تعمل لصالح تنمية أصيلة في إطار صيرورة التغير الاجتماعي، وفي الواقع فإن المجتمع يعتبر هذا الموروث بما يحويه من خصائص مصدراً تنبع منه النظرة إلى الكون والتصور اللذين يقيمهما الإنسان لطبيعة الأشياء والوقائع الاجتماعية والظواهر الروحانية، ولهذا فإن الموروث الثقافي يُشكل بدون أدنى شك قوة أساسية تعمل إما على إنسان متفتح الذهن يقبل التغيير والتجديد، وإما أن يكون مغلق الذهن فيرفضهما، ويرى المتابع بأن الموروث الثقافي لم ينشأ ولم يتطور في فضاء الفراغ أو العدم بل إنه استمرار لمراحل التنمية السابقة وقوة ثابتة ودينامية موجودة كان لها دور في الماضي لخلق وقائع جديدة، ومن المُلاحظ بأن هذه الدينامية تعمل على تبادل التفاعل بين الإنسان وثقافته مع مراعاة تأثير كل منهما في الآخر ومن الواجب تشريح هذا الموروث فكرياً واجتماعياً وإعادة تأويله ثانياً ليكون مُلائماً ومُناسباً وفعالاً ومُتواكباً مع الوقت الراهن، وهذا يجعل المرء في درجة عالية من الوعي لقيم الماضي، وفي نفس الوقت منفتح على آفاق المستقبل مما يُمكنه من تقويم موروثه الثقافي من منظور المقارنة الواقعية مع الموروثات الثقافية الأخرى في ضوء المُعطيات التاريخية والحضارية ومُتطلباتها، ومن الضروري بمكان أن تتم كامل عملية تشريح الموروث بدون أي عامل لأي استعلاء نفسي أو مُركب نقص بشري، ومن الجدير ذكره بأن التغير الفاعل بغية تطوير المجتمع لا يمكن انطلاقه إلا بعد تحقيق تمايز ما مع مختلف الوضعيات السائدة اليوم وعلى مستويات عدة ومنها: مستوى البنية الاجتماعية، ومستوى العلاقات الاجتماعية،

ومستوى الوعي الاجتماعي.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار