وقال البحر… واقع النهضة

  الوحدة 23-12-2020                                                                   

 

 

هل فعلاً الإنسان بحاجة حقيقية وماسة إلى مشروع نهضوي دقيق التفاصيل وعميق المعاني للنهوض ودخول العام الجديد، أو أن فكرة هذا المشروع وحتمية دقة الصياغة مقتبسة بوعي أو بدون وعي من فكر وتوجه شمولي تأثرت به مجمل التجارب المعاصرة، والسؤال المطروح هنا بجدية هل يُمكن للمرء التحرك إلى الأمام دون هذا البرنامج الفذ الذي يأتي وقد لا يأتي والذي بلغ الاختلاف على تفاصيله عنان السماء بين شتى النُخب أو أن الناس نسيت أولويات النهوض، وأغلب الذين يتكلمون عن النهضة والتقدم بلغة معقدة واصطلاحات بنيوية وتفكيكية ينتمون عادة إلى مدارس فكرية فشلت في عملية النهوض والإنهاض وابتعدت عن الوضوح والتواضع بينما قادت الشركات العملاقة ورجال المال والأعمال نهضة حققت نجاحات هائلة جداً في مجالات الصناعة والاقتصاد ورفعت المستوى المعيشي بشكل كبير ومُلفت رغم بعض وجوه الإخفاق التي لا تخلو منها أي حضارة نضجت على نار هادئة، ومن المُلاحظ أن كثيراً من الثقافات التي ساهمت بطريقة أو بأخرى في تطوير الحضارة الإنسانية خلال مختلف الحقب التاريخية تجد نفسها اليوم مهجورة ومُهمشة في مرتبة ثانوية وفي حاجة ماسة إلى التجديد والنهوض، وفي هذا السياق فقد وجدت المجتمعات نفسها في ورطة كبيرة وأمام خيارات صعبة جداً وإلى حد ما فقد أيقنت بأنها غارقة في وضع مُحير ومُربك للعقل أمام ما ستفعله في تطلعاتها وآفاق تخطيطاتها وأنشطتها و ممارساتها وتنشئتها الاجتماعية واستهلاكها إذ يتوجب عليها أن تُحدد توجهها العام لسياستها الإنمائية وآفاق واقعها النهضوي وصيغة هويتها الثقافية في ظل واقع الأفكار المقدمة والحلول المعروضة والتي تُعد مثلاً ومرجعاً يُحتذى به وموضوع تقليد يُقتبس منه، وبعبارة أخرى فإن على الأفراد والشعوب والمجتمعات أن يُعيدوا النظر في تنشئتهم التربوية والاجتماعية التي يغرقون فيها شعورياً أو لا شعورياً وأن يُثقفوا أنفسهم من جديد لأن الثقافة منبع العقلانية والعلم والمعرفة وهي أفضل البدائل المؤدية إلى العصرنة والمُفضية إلى واقع نهضوي مميز يُناسب الوقت والزمان مع ضرورة الاستمرار في رؤية المستقبل عبر تجديد أو بعث الماضي.        

النهضة عملية حضارية مُعقدة بحاجة إلى جهود فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وبالرغم من الانتقاد الحاد للتوغل كثيراً في التنظير فهذا بالطبع لا يُلغي العطاء الفكري المميز ولا ينبغي لأي جدل أن يُعرقل مسيرة النهضة من خلال الإيهام بأن شروط النهضة على الورق وفي الكتب هي نفسها على أرض الواقع وفي مناحي الحياة كافة بكل مجالاتها، ويُنادي لسان النهضة بإمكانية الجمع بين روحية الأخلاق ومادية الحضارة، وربما تساءل البعض وقد بلغ منه اليأس المُفرط والقُنوط الشديد أبلغ مداه عن خطة حقيقية أو مشروع نهضوي شامل رغم ما بين مكونات المجتمع من تفاوت وتنوع واختلاف وتعدد مشارب وخبرات وتجارب حياتية واختلاف المداخيل ومستوى العلاقات الاجتماعية ومع أن البعض قد يقول نعم بإيجابية ولكن لا تكفي الكلمة لوحدها أو حتى الاندفاع الظاهر وحده، بل لا بد من التركيز الثاقب في هذه الأيام وحصر الاهتمام الدقيق على جوهر اللُب الحقيقي لعملية التقدم المتمثل في البدء من مكان المرء ذاته دون البقاء فيه أو التفكير في العودة إليه، وقد بين العديد من الخبراء في مجالات النواحي النهضوية أن أفضل و أنسب التصورات المُوجزة للحالة النهضوية المثالية تكمن في الحياة والعمل في ظروف وأجواء مبرأة من نفاق الديمقراطية وبعيدة عن حالة الفوضوية ضمن دولة قوية، ولعله مع حيز الانشغال الكبير في أوساط المثقفين أشار جزء منهم إلى الرغبة في وضع نظرية شاملة مع ترجيح الميل لاختيار مشروع نموذج نهضوي حضاري مستقل كامل لا تشوبه شوائب أبداً، وخصوصاً في ظل الوقت الراهن الصعب والظروف الحالية القاسية وعواصف المشاكل وأعاصير الضغوطات التي تُحاصر أغلب جوانب الحياة المتدهورة في كل مناحيها قاطبة وشتى تفاصيلها و ألوان صورها مع عدم نسيان موضوع التقاليد دائمة الحضور ومصدر النفوذ والداعمة أحياناً والشاجبة تارة لكل أفكار وأنشطة كل مجتمع يسعى للتجدد والنهضة والاستقرار كرغبة وأمنية.

ينبغي أن يعي المرء جيداً بأنه لا بد من أهمية الاهتمام بالعمل والإنجاز لا بالكلام فقط  ورفع الشعارات مع عدم النفخ في الذات والمشاعر وكذلك التوقف عن محاربة كل جديد تحت ذريعة وشعار الغزو الفكري والثقافي إضافة لضرورة تهيئة المجتمع رجالاً ونساءً لضريبة التحول الاجتماعي والفكري وآلام التحديث ومع وجوب الدقة في التمييز بين معاني مفاهيم الهدنة الحضارية والتعايش الاجتماعي والذوبان وتبني القيم العصرية والغريبة أحياناً عن التراث والتقاليد في بعض الأحيان بكل رضا وطيب خاطر والتحلي بالإبداع الخلاق والشجاعة المناسبة، ومن المُلفت بأن السمات الخاصة لاتساع رقعة جملة التجارب النهضوية جعلت الشعارات المدوية والكوادر الشابة تشعر بالغموض والجهل والغرق في متاهات التنظير وضغط ومشقة العمل للتوصل إلى توازن دقيق وحساس بين الفرد والمجتمع ضمن الشروط والقوانين النهضوية، وإذا كان لا بد من بعض الغلو بغية إغراق الناس في حلقة تفاصيل التنظير التنموي والواقع النهضوي فيمكن الإشارة إلى ثمة كلمة عميقة جداً يُمكن لها وصف شكل كل ما يحدث بدقة متناهية ألا وهي الارتجال وخصوصاً عند تحليل أهداف النهضة في أروقة الصحافة ومنابر الإعلام و ندوات التنمية ومحاضرات التوعية وجولات الجدل الطويل حول الأعداء المتربصين والحصون المهددة من الداخل وأهداف المجتمع المنشودة تحقيقها تحت شعار دولة غنية وسواعد قوية.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار