وقال البحر التخلف والتنمية…

الوحدة  9-12-2020

 

 

هيمنت موضوعات التنمية وهواجس التخلف لعدة عقود على حيز كبير من حدة جولات النقاش الدائر حول صيغ الاقتناع المُتبادل بمفاهيم واختيارات وأحكام كل طرف في الأوساط الأكاديمية وغيرها ويتضح من مجمل الأدبيات والأبحاث التي كُتبت في هذا الشأن إلى أن مقاربة التنمية من باب وضع التقاليد في مواجهة العصرنة شكلت معالم بارزة فيما تم إنجازه وتقديمه وطرحه من تحليلات ودراسات وتصورات وأبحاث و غالباً ما كانت تُضاف في تلك الأدبيات صفة العصرية للأفراد والشعوب والمجتمعات عندما يُراد وصفها بالتطور أو بوصف أكثر دقة وهو التحضر، وفي مقابل ذلك تُلصق صفات التخلف والتأخر والبدائية بالأفراد والشعوب والمجتمعات عندما تكون ما تزال تعيش تحت تأثير عاداتها و تقاليدها الموروثة، وعلى الرغم من أن هذه المقاربة عرفت نوعاً من الانحسار في الوقت الراهن إلا أنها ما تزال مهيمنة في كثير من مجالات المعرفة كعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، وتبعاً لهذا المنحى في التحليل فإن التقاليد تُعتبر عائقاً في وجه التنمية والتغير بصور عامة ومن البديهي القول فعلاً أن منحى التحليل هذا يُرسل رسالة فحواها بأن على كل الشعوب التي تسعى لبلوغ ما يُسمى وضع نامي أن تتغلب إما جزئياً أو كلياً على الأشكال التقليدية في ثقافاتها بإدخال العصرنة التي تُعد في حد ذاتها فكرة صائبة وذلك في كل المستويات الاقتصادية التجارية منها والصناعية وكذلك التنظيمية والمؤسساتية وغيرها مع ملاحظة أن صيرورة التنمية ومقارعة التخلف تقتضيان تغييرات جوهرية في بنية المجتمع.

يقوم المنطق الجدلي في تحليل أي معالم ظاهرة ما على قاعدتين رئيسيتين هما:

– قاعدة التناقض بمعنى أن تلك الظاهرة تحتوي على نقيضها في ذات الوقت.

– قاعدة الترابط أي أن هذه الظاهرة تتمتع بالتماسك الداخلي وأن الأبعاد الداخلية ترتبط بالمتغيرات الخارجية المحيطة بها ارتباطاً متبادلاً.

وتطبيقاً لهذا المنطق على تحليل قضية التخلف كإحدى أهم قضايا التطور الاجتماعي بمعناه التاريخي الشامل باعتباره موضوع الجدل وليس التفكير في المُطلق مثالياً كان أو مادياً وكمحصلة للممارسة الإنسانية في ظل ظروف محددة تتبدى جلية أمام ناظري المرء حقيقة رئيسية وهي أن التخلف يحتوي بمعناه على تجميد محركات اقتصادات و مجتمعات البلدان عامة ولكنه يتضمن أيضاً على نقيضه أي النمو، فالتخلف هنا واقعة حركية وإن وحدة التخلف ذات الطابع التناقضي أي المحتوية لكل من الثبات والتغير إنما تستند راسخة إلى الأبعاد الداخلية أساساً والمتمثلة في التكوين الاقتصادي الاجتماعي المحدد، وانطلاقاً مما سبق جميعه فإن دراسة واقع التخلف رهن بإحداث تحول داخلي في بنية الواقع المتخلف بحيث تتم إثارة ذلك انطلاقاً من حدة الصراع بين جانبي التناقض: القديم المُرتكز على نخبة الطبقة المستفيدة من التخلف والجديد المُرتكز إلى عموم القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في ذلك.

شهد عدد كبير من البلدان المتخلفة تطوراً اقتصادياً بادياً للعيان في مختلف المجالات وشتى الصُعد وتطلب إظهار وجه الحقيقة في هذه المسألة تبيان الطبيعة الحركية لكل من التخلف والنمو، وانطلاقاً من هذه الجدلية يجد المُتابع بأن التخلف ليس حقيقة في المطلق ولكن في النسبي وصيرورته أساس وجوده ولعل فهم عبارة التخلف على أنها عكس النمو يُعد نظرية غير جدلية بالقطع.

وتبقى خصائصه النوعية ثابتة نسبياً طالما بقي جوهره الذي لا يتغير إلا بإبدال نظام التخلف بالذات، ولا شك بأن العلاقة بين التخلف والنمو تُصبح أكثر إثارة للنقاش والتساؤل حين يتعلق الأمر بالتطورات الحاصلة أخيراً والمستجدات الطافية على السطح راهناً في واقع التخلف، وللتذكرة فليس التخلف محض انفعال ولا هو مجرد تأثر وإنما هو واقع ديناميكي مركب يتشابك مع كل خيوط الأبعاد الاقتصادية الخارجية بمجملها، وإنما هي في حالة صيرورة تأخذ وتُعطي وتفعل وتنفعل دائماً في إطار التخلف وهي تخلق في رحم علاقاتها طبقات تسيطر على مناحي ومقدرات الإنتاج بآليات منفردة. 

من المعلوم بأن موقع أي بلد من علاقات الإنتاج العالمية المتميزة بطابع التفاوت وعدم التكافؤ يتحدد بدقة بالطبيعة الخاصة لأسلوب التنمية فيه وهذا على المستوى الثانوي وأما على المستوى الرئيسي والأكثر عموماً فإن طُرق النمو وحتى أساليب الإنتاج المتخلفة رغم تنوع أشكالها وتعدد مظاهر صور اندماجها في الخارج فهي ليست سوى نُظم فرعية داخل نظام اقتصادي عالمي ومتشابك، وفي هذا النطاق يجوز القول بأن هيكل النمو الطبقي للتخلف هو جسر عبور للسيطرة الخارجية كما أن تصنيف الطبقات الاجتماعية في المجتمعات المتخلفة تتحدد بموقعها في فلك العلاقات الدولية مع ضرورة التسلح بالوعي الكافي لتفادي عدم الانزلاق إلى مواقع غير محسودة العواقب وذلك عند المطالبة بتغييرات شكلية أو إجرائية في خفايا ودهاليز عالم العلاقات الاقتصادية، ومن الجدير ذكره بأن نقطة البدء في القضاء على التخلف وإنجاز التنمية الحقيقية تكمن في نبذ واستبعاد السير في طريق النُمو المُتمحور حول التبعية للخارج والمُرتكز على طبقة مُفتقرة للنُخب الصناعية والمهنية بامتياز، والتوجه لسلك درب التنمية المُرتكز على تحالف اجتماعي عريض بين سائر القطاعات المُنتجة في البلد والاستعانة بمؤسسات الدولة الفاعلة والحيوية لخدمة أهداف التنمية وتحقيق المُبتغى المأمول.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار