وقال البحر…. الحداثة الفكرية…

الوحدة 25-11-2020

 

 

 

شكلت في الآونة الأخيرة موضوعات الحداثة والأصالة محوراً لكثير من حلبات النقاش الدائر في المجالين الأكاديمي والسياسي، و قد بلغ النقاش ذروته والمطالبة أقصاها عند صافرة الاستعداد لبدء منح عموم المجتمعات خُلاصة المهارات والمعرفة العلمية والخبرات التقنية كوسائل ناجعة لتطوير مسيرتها وتنمية آفاقها مع مراعاة دور ونفوذ الخبرة والخبراء في التأثير على صنع القرارات، ومن باب العلم فالعالم فريقان فواحد تُعجبه الكذبة الحلوة ويُفضلها على المُرة و لو كانت الحقيقة نفسها و آخر يُحب الحقيقة حتى سكرات الموت وليس بالضرورة موته هو بقدر ما هو موت الآخرين وهذا يعني أنه يُفضل الحقيقة ورنين سماعها ولو كانت علقماً، وعليه ينحصر فعلاً تاريخ الفكر بين نهضتين تاريخيتين الأولى كلاسيكية ألفية تأسست في كنف وعلى قاعدة أُسس الثورة المجتمعية التي ظهرت في إطار مسمى الدين والدعوة والثانية حديثة مئوية تقريباً على وجه التقريب بنيت حديثاً وظهرت في إطار قاعدة التثاقف والتفاعل بين ضفتي المجتمع المحلي والغربي بغض النظر عن أي تحليل ووصولاً إلى بداية تشكل معظم الأطر السياسية الحديثة أو المُحدثة وكانت المأثرة البارزة هي التأكيد على جملة آداب ومبادئ أخلاقية جديدة تُرسخ معنى الأخوة بين سواد  مختلف الأفراد وتُذكر بمسؤولية الفرد عن جميع أعماله في مقابل المسؤولية الجماعية السائدة بناءً على مفهوم الحق والشرع والقانون، وإذا كان لا بد من المقارنة بين احتكاكات الشعوب المنتمية إلى ثقافات و تقاليد مختلفة ليُصبح على مدى مر الأيام والسنين تُراثاً ثقافياً خاصاً مُتداخلاً بصبغته وجوانب خصوصية إبداعاته العزيزة على الفكر الإنساني.

ارتكز المثقفون على تطور العلوم الإنسانية مما مكنهم من طرح مبدأ التأمل الفلسفي والذي يُظهر الفرق الكبير بين موقف الإنسان حينما ينظر إلى الناس وشتى المواضيع بعين الجسم من الخارج وبين موقفه حينما ينظر إليها بعين الروح فيشارك فيها ويُعاينها من الداخل وهذا ليس فرقاً في الكم ولا اختلافاً أبداً في الدرجة فحسب إنما هو فارق يتجلى بسطوع بين النظر الداخلي والخارجي لماهية الأشياء، ويتضح المقصود بأن الحقيقة كامنة خلف التحقق وفيما وراء المحسوس الغير مقيد بقيود الزمان والمكان حيث يُدركها العقل تجزئة في حين يُدركها الحدس إحاطة وإجمالاً، وبما أن كل تعريف هو إشارة وتحديد فالديمومة لا تتعرف إيجابياً إلا بكونها صيرورة الأشياء وهي الزمان الذي يعيشه المرء فعلاً في التدفق الحيوي، كما وتتعين الديمومة انطلاقاً من الاختلاف مع مصطلح التطورية حول مفهوم الزمان بمقياس مكاني.

في استعراض عام لمفهوم النهضة يجد المرء بأنها تعريفاً هي مرادف للحداثة باعتبار أن النهضة هي في جوهرها تحديث عقلي يُمهد للحداثة على كل أصعدة الحياة و الوجود، والنهضة بصفة عامة ودون الدخول في كثير من النقاشات الدائرة حول تعيينها وتحديدها هي الحركة الثقافية التي استبدلت أفكار وأنماط عصر سابق بمفاهيم وقوالب جديدة و يبدو من السياق أن أصحاب الفكر والفن أصبحوا يميلون إلى العودة لتعابير الطبيعة ومفرداتها والملاحظة المباشرة لها، وبدأت الحاجة الماسة والفعلية إلى بناء العالم على أساس حرية العقل وأضحت المسؤولية الفردية تستشعر بدقة ووضوح ضمن الحياة المجتمعية القائمة على أركان قاعدة الحق الطبيعي، وبما أن المجتمع ظاهرة طبيعية بحد ذاتها فيترتب على ذلك وجود نظام طبيعي يتحقق بحرية ويكرس مفهوم الحرية وهنا يتحدد دور الدولة المؤثر والهام في هذا النطاق كونها بحق حارسة النظام الاجتماعي وراعيته.     

من المعروف للجميع بأن المجتمع المدني الذي لا تتدخل فيه الدولة كسلطة دولة في حرية الفكر هو الشرط الأساسي والمحوري والمهم لتفتح آفاق المرء وشخصية الإنسان، كما أن حرية الفكر هي ضمانة ترابط المجتمع ومفتاح سر استمراره ولا حرية فكر بدون روح نهضوية ولا نهضة بدون إعادة الاعتبار لقيم الفلسفة من حيث التفكير بالموجود كموجود بدون وساطة وهذا هو بيت القصيد لمعنى حرية الفكر، وحتى يصل أفراد أي مجتمع إلى عتبة مرحلة الفكر الفلسفي الحر يبقى سبيل التراسل ومنصات التواصل مع التراث ضرورة لا غنى عنها و ذلك على أقل تقدير للاستفادة من ثروته المصطلحية الهائلة التي لا مثيل لها إلا في نماذج وأدبيات الفكر المنفتح والتي تظل في عموميتها وشموليتها وليدة الظرف التاريخي الخاص به.

د. بشار عيسى

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار