الوحدة : 11-11-2020
يُعتبر هذا العلم من أكثر العلوم القديمة غموضاً، وهو مزيج من علم الفلك والطب والكيمياء وتُثير علاقته بمناحي الطب الدهشة وجوانب الاستغراب وقد كانت لُب المهمة الأساسية للتنجيم في العصر القديم رصد حركة الكواكب والتنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر المصحوبة بأحداث لا تُبشر بالخير كما كان الاعتقاد السائد آنذاك، وكان مجرد القيام بهذا الأمر يجعله مُحاطاً بجوٍ من الرهبة والقدسية في بعض الأحيان، ومن الواضح أن طبيعة الإنسان هي التي تدفعه باستمرار إلى التطلع لمعرفة المجهول كون الإنسان بحد ذاته هو أكثر ما في هذه الحياة غموضاً ولربما كان السعي المحموم لبني البشر لاستقراء مستقبلهم يتفق مع الغريزة الكامنة في أعماق كل منهم ويأتي علم التنجيم ليُغذي هذه الغريزة ويُحلق بجوارح الإنسان وخياله عبر آفاق الزمان والمكان.
تُعد علوم التنجيم التي وضعها البابليون منذ أكثر من خمسة آلاف سنة هي نفسها الأُسس التي يعتمد عليها منجمو هذه الأيام فالمنجم ينظر إلى الكون وكأنه كيان واحد يخضع كل ما فيه إلى تأثير جميع الموجودات من أحياء وجمادات والإنسان جزء من هذا الكون الواسع وهو لا ينفلت من هذا التأثير، إلا أن علم التنجيم يعتبر أن مستقبل الإنسان ومسار حياته يعتمد على لحظة الميلاد وحركة النجوم في السماء ولا يُقدم هذا العلم أي تفسير لكيفية حدوث ذلك، ولم يكن بمقدور المرء في الأزمنة القديمة التمييز بين حدود واضحة للعلوم المختلفة فقد كان العلم نسيجاً غريباً يضم خيوطاً شتى من بدائيات صنوف العلم وبساطة معارفه وقد كان هذا في بعض الأحيان الكثيرة يُتيح لشخص واحد أن يلم في جعبته العديد من أوليات العلوم ومن يُطالع حياة ابن سينا والبيروني والكندي والرازي وغيرهم من العلماء سوف يُدهشه أن كلاً منهم كان بمثابة موسوعة بشرية تحققت من خلالها شمولية العلم والإلمام بأطرافه مهما بعدت وتباعدت.
اهتم القدماء بعلم التنجيم أو العرافة وكانت الكتب المترجمة من الشرق والغرب تُتيح الاهتمام بهذا العلم ودراسته وربما كانت علاقة التنجيم بأقسام الطب هي أكثر وأبرز ما جذب نخبة الدارسين لهذا العلم من غالبية القدماء، ولعل الإشارات الواضحة والكثيرة التي وردت في بعض الكتب المترجمة عن أطباء بابل ومدى اهتمامهم بحركة النجوم ورصدها لمعرفة مدى انتشار أي مرض أو الشفاء منه وكذلك الكتب الهندية القيمة القديمة والتي تشير إلى علاقة الإنسان بالكون وانعكاس ذلك على صحته وحياته حددت علم التنجيم كوسيلة لاستقراء المستقبل والوقوف على أحداث لم تزل بعد مجهولة والتنبؤ العلمي القائم على الحسابات الفلكية والأنشطة الجوية، ويمكن للمرء عند مطالعته للكتب المترجمة إيجاد ما يمكن اعتباره دراية كاملة عن علاقة البروج الاثني عشر المعروفة في علم التنجيم بصحة الإنسان وأمراضه مع استقرار الرأي بلا أدنى شك على رفض التنجيم بمعنى قراءة الغيب حتى بين المنجمين أنفسهم.
في حقيقة الأمر أنه لم يتم حتى الآن فهم كل شيء عن تركيبة جسد وطبيعة عقل الإنسان وثمة ملاحظة تستوقف المرء وهي أن الإنسان ليس معزولاً عن هذا العالم بل هو على الدوام في قلب مركز تقاطع خطوط وقوى تُؤثر فيه باستمرار وهذا التأثير يمضي في حساب دقيق يُمكن تحديده وملاحظة أبعاده، ولا شك أن دوران الأرض حول الشمس وتأثر هذا النشاط بالمنظومة الكونية كلها يؤدي بالفعل إلى حدوث تغيرات تأخذ قوى مثل قوة الجاذبية والعواصف الشمسية والرياح الفضائية وبناءً على ما تقدم ذكره آنفاً سيظل هذا هو الباب المفتوح الذي تدخل منه نظريات وأفكار في محاولة لتفسير ومعرفة ما يُؤثر في الجسم سواء من داخله أو خارجه ولعل من أكثر ما يُحيط بالإنسان غموضاً أيضاً هو إحساسه بالوعي ومدى تأثير ذلك الوعي في آلية الجسد وربما كان إيمان العلم راهناً الآن أنه استقر على شكل من أشكال انفصال الوعي عن الجسد كما تُشير دلائل كثيرة إلى امتداد هذا الوعي في الكون وقدرته على اختراق حواجز الزمان والمكان والقفز فوق حدود الحواس مع الانتباه لعدم وجود تفسير حتى اليوم إلى مدى التأثير الغريب للوعي أو الإرادة الحرة في عقل الجسم، وخلاصة ما يُراد قوله بأن صحة الإنسان ومنظورها من خلال علم التنبؤ أو التنجيم هو أمر ممكن قبوله كأحد علوم المستقبل ولكن ذلك لا يكون على أساس لحظة الميلاد و حركة النجوم في فضاء السماء بل على أساس اعتبار أن الإنسان بعينه هو إحدى النغمات في معزوفة الكون الرائعة الألحان وتوازن الإنسان داخل هذه المعزوفة يعتمد على مزاج ساعته البيولوجية وتأثرها بحركة كل ما في الكون ونشاط القوى فيه وهذا هو ما يمكن رصده والتنبؤ به.
د. بشار عيسى