وقال البحر … أزمة الواقع

الوحدة 4-11-2020

 

يُعد مصطلح الأزمة بلا أدنى شك علامة مميزة كُبرى للمجتمع المعاصر في هذه الأيام، وقد بلغ من عمق اتصاف المجتمع المعاصر بصفة التأزم أنه بات يصح فيه القول بأنه مجتمع يُراكم الأزمات، فبدون أن يحل هذا المجتمع أية مشكلة من المشكلات المطروحة عليه يجد نفسه باستمرار في مواجهة ملامح مشكلة جديدة تُضاف إلى ركام سابقاتها لتزيدها وتزداد بها تعقيداً بدون أن يُسهم حل المشكلات القديمة في صياغة استجابة ملائمة ومناسبة للتحدي الجديد وأيضاً بدون أن يُسهم حل المشكلة الجديدة في تحقيق استرجاع نقدي وتجاوزي للإشكاليات المتقادمة، ولكن أن تكون كلمة الأزمة هي العنوان البارز والمميز للمجتمع المعاصر في الوقت الراهن فإن أهم ما يميز أزمته ويفرزها عن أزمات غيره من المجتمعات المختلفة هي أنها تطول صلب الواقع وعمقه وجوانب الفكر وتشعباته معاً، وقد عرفت الكثير من المجتمعات على مر التاريخ ما يعرفه المجتمع المعاصر في هذه الأجواء من أزمات طاحنة ولكنها كانت على حدتها أزمات خصبة جداً استتبعت ليس فقط استجابات مطابقة فحسب بل كذلك قيام وضعيات جديدة نقلت تلك المجتمعات إلى أطوار أكثر تقدماً وأعطت لتطورها التاريخي شكل قفزات ونقلات نوعية أتاحت لها تحقيق فيضاً من التطور والرقي و لعل هذه الخصوبة الأزموية يجهلها عموم المجتمع الحالي فتراكم الأزمات الشديد وبلوغها حد الاستعصاء لا يضع المجتمع على عتبة الانفراج أو حتى عتبة استشراف الانفراج بل يُخضعه لقانون التردي بمعنى الانتقال من سيء إلى أسوأ مع غلبة شبه تامة لهاجس توقع الأسوأ ولفلسفة الواقعية التي ترضى بالأقل سوءاً توجساً وتوقيّاً من الأكثر سوءاً، وليس من العسير الهداية إلى سر هذا العُقم الأزموي ففي كل حالات الأزمات الخصبة يقوم بين الواقع والفكر جدل التحدي والاستجابة وصفحات التاريخ حافلة بالأمثلة الكثيرة على العديد من الأمم التي عرف فيها الفكر انطلاقة باهرة بحكم تردي واقعها وتحديداً بهذا المعنى كانت عظمة الفكر هي الوجه الآخر لبؤس الواقع والقاطرة التي تشده على سكة الإصلاح المجتمعي.

ليست الأزمة بحد ذاتها هي الجديد في تاريخ المجتمع المعاصر بل الجديد في هذا التاريخ هو تحولها من أزمة النموذج المفتوح إلى أزمة النموذج المسدود أي في التحليل من أزمة في الواقع إلى أزمة في الفكر والواقع معاً، وإذا كانت الساحة الفكرية الحالية تضج بالبكاء الصارخ على أطلال الماضي بتزايد مضاعف وملحوظ عما كانت عليه سابقاً فهذا لأن تعرية الواقع تحتاج لأساليب نقد وطرق تفكير بغية تغيير الظواهر الطافية على السطح و تشريح العيوب على مائدة الفكر وهنا يجب الإقرار بمسألة هامة جداً وهي التمييز بين عمليات الواقع وعمليات المعرفة أي التمييز بين الوجود و المعرفة مع مراعاة أسبقية الواقع على المعرفة كون الفكر نتاجاً لتراكمات الواقع المختلفة والاتجاهات المتنوعة بكل ألوانها وأطيافها وتعدد مشاربه وتباين عمق أهداف خصائص مناهجه المتمحورة في:

– معالجة فشل الواقع الراهن في تحقيق أي نوع من مختلف صنوف التقدم ومعالجة القضايا الدائرة في فلك نفس المفاهيم مع الحوم الدائم حول نفس الحلول رغم كل الاختلافات الجزئية.

– الالتفات الجاد إلى الواقع ومحاولة إيجاد مخارج لعدم فاعلية الأفكار المقدمة فيه ولتجاوز تناقضاته ومنحه النظرة البعيدة في تجاوز سلبية مفرزاته والتجاوب مع عناوين طموحاته.

– الرجوع إلى تاريخ تكوين الفكر لمعرفة الكيفية التي تشكل بها والتي بفضلها يتم التفكير في قضايا الواقع الراهنة والتي تُشكل الأساس المشترك بين جميع الاتجاهات والفلسفات والمشارب المختلفة.

مما لا شك فيه بأن الأزمة قائمة فعلاً وتُرخي بظلالها على مناحي الحياة كافة والناس يدورون في حلقة مفرغة ولن يجدوا طوق النجاة إذا لم تُطرح حلول عملية وعقلانية بكل وضوح، ولن يتغير الواقع من تلقاء نفسه وإنما سيتغير عبر صراع طويل الأمد وعميق النفس مع فكر الجمود وعقبات الواقع المتحجرة ومن نافل القول أن أصحاب الفكر الواعي وحملة العقول النيرة هم الذين يرسمون معالم الطريق نحو عدم إضاعة الوقت وهدر الجهد في حل إشكاليات الواقع المحسومة وهدم أبواب يُظن أنها شبه مغلقة وهي مفتوحة أصلاً كون كل ذلك يشغل الجميع عن التفكير في القضايا الحياتية والمعيشية التي يُجسدها الواقع عذاباً وألماً يوميين، ولا يغفل المرء عن أن الواقع الحالي دخل مرحلة خيار مصيرية فإما مواكبة العصر واستيعاب الخصوصيات الموروثة في إطار مؤسسي يؤمن التقدم الاقتصادي والسلم الاجتماعي والتميز الحضاري وإما الشرذمة إلى ما لا رجعة في المنظور القريب تحت ضغط العوامل المختلفة الخارجية منها والداخلية وبناءً عليه فمن المُحتم إذن كحد أدنى وضع خطط مرحلية لمواجهة التحديات بكامل الصفاء وتوحيد الجهود لمقاومة كل الأخطار المُحدقة والعقوبات الجائرة كخطوة أولى عملية وصادقة على طريق بناء رؤية استراتيجية شاملة.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار