الوحدة 22-9-2020
أعمى وأبكم جذبا بحوارهما الاهتمام والدّهشة!
وتبيّن أنّ كلّاً منهما يتقنْ لغة الآخر، لم يقدّم الآخرون إعجابهم وتشجيعهم، وساد الازدراء والتّهتك، بل وراح الواحد تلو الآخر يستعرض طلاقته و تدفّق رؤياه، حتّى نجد فيهم من كان وصفه لنفسه يفوق لوحةً تنتهي لرسّام حيّرت ألوانه جدران المعارض- وما الأعمى والأبكم- إلّا خطّان يشتركان في أبعاد ومضامين تلك اللوحة؟!
يستمرُّ حوار الأصحّاء، ثمّ ينقلب إلى ركلٍ ولكمٍ، وفي النهاية استعان البعض بعلوّ الجبال وامتداد الأفق دفاعاً عن قدراته وملكاته، حتّى ليخيّل أنهم بحارٌ تسرق أمواج بعضها. أمّا الأعمى والأبكم، فقد ابتعدا شيئاً فشيئاً، وهما يطلقان الأماني في أن يكون العالم ما بين أعمى وأبكم ومقعد، فالعاهة أحياناً طوق نجاة أمام من لا يميّز بين الحديقة والمقبرة، ولا بين الأشجار والأسوار، في عالمٍ يسوده الاهتمام بهيكل السفينة وليس بالطوفان، فأرى (عنترة) يسقط من حصانه على كرسيٍّ متحرّكٍ، وقد استبدل سيفه بمنديل (عبلة) ملوّحاً! وأرى تلك الصبيّة غيمة تهمّ بالرحيل، وهي تخيط فستانها على وقع دبكة عرسٍ ليليةٍ، ولا ضير إن كان القنديل فيها يحترق أو يضيء، فالغيمة وقودها المطر.
أمّا المسافر فيخبئ عمره على جنبات الدروب أملاً باللاعودة، مدوّناً اسمه في دفتر البحر الكبير، ولا يلتفت لمرور السفن أو المراكب، يصحبه ماضٍ زرع فيه نخلةً، فنبتت سنابل لا يقربها الحصاد ولا الحصّادون، فيمضي بالهروب سمكة بريّة من حيتانٍ ابتلعت الماء وتسعى إلى ثرواتٍ بارتفاع الشمس!!
ما زال المسافر يضرب كفاً بكفٍّ وهو يقول: لم تعد الحكاية تروى كما هي، وإنّما صار لكل حكايةٍ حكاية.
سمير عوض