النسيان بالنسيان!

الوحدة: 24-8 -2020

 

حتى ينسى الشاعر ابن زيدون طعنة ولاّدة بنت المستكفي لكرامة قلبه، بعد أن فضلت عليه الوزير ابن عبدوس لجأ إلى ما عرف برسالته الهزلية التي كتبها على لسان ولادة إلى ابن عبدوس بأسلوب ساخر وزاخر بالذم والقدح والتهكم فجعلها تصفه بالمصاب في عقله، والمغرور بنقائصه.

وتسترسل في إهانته والانتقاص من رجولته وكان بذلك يحقق ما كان يتمنى لو أنه حصل فعلاً ويخفف شيئاً من احتقانه وحقده على غريمه، بل لعله كان يمارس إحدى آليات الدفاع اللاشعورية وهو ما يطلق عليه في علم النفس بآلية الإسقاط التي تتمثل في عملية خداع للنفس تتم عن طريق نسب المرء نقائصه أو أفكاره ورغباته إلى الآخرين فيتمكن بذلك من خفض بعض التوتر الداخلي بتصريفه عبر قنوات ثانوية.

أما حين عجز عباس محمود العقاد عن نسيان من استبد به هواها وحالت بينه وبينها الأجواء المحيطة بها في وسطها المهني الذي كان العقاد يرفض انخراطها فيه فقد اتصل بأحد أصدقائه الرسامين وطلب منه أن ينجز له صورة تحتوي ( تورتة) فاخرة تثير الاشتهاء لولا أن تهاوى عليها الذباب وأحاطت بها الصراصير فتحولت إلى مصدر الاشمئزاز وإثارة الغثيان.

ويقال إن تلك الصورة بقيت معلقة على جدار غرفة الأديب الكبير حتى آخر أيامه وقد اتخذها وسيلة يتجاوز بها وجع الفراق وحيلة يركبها طمعاً في النسيان.

أما ألفريد نوبل صاحب الجائزة الشهيرة فقد ترك مع وصيته جائزته السنوية وصية مرافقة أبدية خالدة تنص على ألا تمنح الجائزة أبداً لاختصاص الرياضيات وكان بذلك ينتقم من عالم رياضيات انتزع منه في شبابه قلب خطيبته التي تخلت عنه لأجله فأبى إلا أن ينتقم منه وممن يشابهونه حتى بعد موته لينسى طعنة حبه.

كثيرة هي حيل النسيان التي يلجأ إليها المطعونون بتذكرهم فالنسيان كما قيل ويقال بل لعله نعمة حين تتحول الذكرى إلى نقمة ويغدو التذكر سيفاً مسموماً يذبح ولا يرحم ولكن هل بلغ أحد من الثلاثة السابق ذكرهم نعمة النسيان حقاً؟

أليس الإسقاط الذي لجأ إليه ابن زيدون أو التشويه الذي استنجد به العقاد أو الانتقام الذي سكبه نوبل سهاماً من الثلج على نار غيرته سوى شواهد من بعدهم على قوة تذكّرهم؟.

قد لا يحتاج النسيان الحقيقي إلى وسيلة بل يبدأ في تلك اللحظة التي نتصالح فيها مع الذكرى نفسها ونسمح لها بأن تنساب في خاطرنا بهدوء وحكمة وهي تهدينا عبرتها وخلاصة تجربتها فنقرئها السلام في نفوس محايدة لا تشنج فيها قبل أن نأخذ اتجاهنا في الطريق المعاكس ناظرين إلى الأمام غير عابئين بما خلف ظهورنا ولا حاملين في أكفنا سكاكين وخناجر لنطعنه بها بين حين وحين.

فالنسيان نعمة لمن بلغ النسيان بالنسيان وليس بوسائل تزيده تذكراً واشتعالاً كلما هجع الحريق.

لمي معروف

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار