قلعة المنيقة… سيمفونية معمارية رائعة

الوحدة: 17- 8- 2020

 

تبعد قلعة المنيقة عن مدينة جبلة حوالي 25 كم على طريق وادي القلع وترتفع عن سطح البحر 620 متراً, وتشغل مساحة 10 دونمات وتحتل موقعاً هاماً على الجبال الساحلية شمال وادي مجرى نهر الحسين نهر كان يجري قديماً في تلك المنطقة ولم يتبق منه شيء سوى سيول شتوية وهذا الوادي معروف حالياً بوادي القلع ويشكل الحد الطبيعي بين محافظتي اللاذقية وطرطوس وتجاور القلعة قرية القلع نسبة للوادي المعروف بقلاعه وقرية المشتية وهذه المنطقة غنية بالمواقع الأثرية التي تعود لفترات تاريخية مختلفة ويعود ذلك إلى غناها بالمياه وتربتها الزراعية الخصبة الصالحة لزراعة الدخان والزيتون وأنواع مختلفة من الزراعات منذ القدم, عن هذه القلعة.

قدم لنا مدير آثار اللاذقية الدكتور إبراهيم خيربك لمحة تاريخية فقال: عرفت قلعة المنيقة لدى المؤرخين كإحدى قلاع الدولة الإسلامية المنتشرة في منطقة جبال الساحل السوري والتي كانت تسمى (جبال البهرة) بعد أن تمكنت الدولة الإسلامية من الاستيلاء على هذه المنطقة الحافلة بالقلاع والحصون البيزنطية.

وقد ورد ذكر قلعة المنيقة في كتاب الرحالة ابن بطوطة المسمى (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأشعار) بأنها حصن, عندما زارها وقال: فمررت بحصن المنيقة, وقد ضبط اسمه بفتح الميم وتسكين الياء وفتح النون والقاف, كما ورد ذكرها عن القلقشندى في كتابه (صبح الأعشى) بأن القلعة إحدى نباتات قلاع الدولة الإسلامية, كما يذكرها وليم الصوري المؤرخ الصليبي باسم المنيقة وبأنها إحدى قلاع الدعوة الإسماعلية المنتشرة في جبال البهرة.

تشمل القلعة مساحة 8650 متراً مربعاً ويبلغ مجموع طول أسوارها 520 متراً طولياً, وبنيت القلعة على هضبة صخرية تحيط بها ثلاثة أودية (جنوب, شرق, غرب) مؤمنة حماية طبيعية لها من هذه الجهات الثلاث, ومن الجهة الشمالية والشمالية الشرقية, تتصل هذه الهضبة الصخرية بالجبال المحيطة بامتداد طبوغرافي طبيعي تم فعله من قبل بناة القلعة بحفر خندق بطول 50 متراً وعرض حوالي عشرة أمتار وسطياً ويلاحظ في الجهة الشرقية بأن بنائي القلعة قد عمدوا إلى تقوية هذه الثغرة الطبيعية ببناء سور مدعم بالأبراج بشكل واجهة تظهر القوة والمنعة, وأعطي هذا السور جميع المقومات الكافية لصموده في وجه الأخطار بقيت المنيقة ولزمن طويل إحدى القلاع التابعة للدولة الإسلامية, فدافعوا عنها رغم تعدد الطامعين بها مرة بالقوة ومرة بالحنكة السياسية.

ويضيف دكتور خيربيك: تأخذ القلعة شكلاً متطاولاً غير هندسي ما هو إلا نتيجة طبيعية لبناء السور بهندسة رائعة متناغمة مع الطبيعة, فتراه متماشياً مع الحواف الصخرية للهضبة بتناغم رائع مع الحفاظ على استقامة كل جدار على حدة, فنرى سمفونية معمارية رائعة تصلح مثالاً للاستفادة من التضاريس الطبيعية في العمارة، وبالوقت نفسه تم توظيف هذا الأسلوب لإنشاء سور بتدعيم ممتاز وذلك عن طريق تراجع جدار عن آخر أو تقدمه عليه مما يؤمن متانة ومقاومة جيدة ضد الأخطار, وعوادي الزمن.

ترتفع الهضبة الصخرية التي تم بناء القلعة عليها من الجهة الجنوبية أكثر من الجهة الشمالية, لذلك تم اعتماد تعدد الطوابق في الشمالية والشمالية الشرقية, وتركيز معظم فعاليات القلعة في المنطقة الممتدة بين الخندق وبداية بروز المستوى الأعلى للهضبة الصخرية وذلك في الثلث الجنوبي وحقيقة الأمر أن هذه المنطقة هي التي واجهت تحدي الزمن والأخطار وبقيت صامدة, في حين أزيلت معظم المعالم المعمارية في الثلث الجنوبي للقلعة لعدم اعتماد البنائين البناء بالأحجار الضخمة والتي تحفظ البناء فترة أطول ومع هذا تطالعنا بعض الجدران خاصة في الجهة الشرقية والغربية. كما نلاحظ توظيفاً للكهوف الصخرية في الجهة الجنوبية للهضبة الصخرية للسكن أو كمخازن ومستودعات حيث لوحظ وجود مغارة تمت معالجة جدرانها للاستفادة منها ويشك بوجود مغارة أخرى وربما أكثر.

 

إن أبرز ما يميز القلاع هو الأسوار الضخمة القوية وما توحي به من منعة, وقد تم بناء سور خارجي ملاصق للسور الأصلي للقلعة ويتقدمه من متر إلى ثلاثة أمتار مما طمس المعالم الأصلية للقلعة, ولهذا السبب لا نجد مدخلاً صريحاً للقلعة أو بوابة تصلح كمدخل ما عدا مكان واحد, حيث تم بناء جدار دفاعي ثان. أمام الجدار الأصلي ليؤمن الحماية للجهة الأخطر وهي الجهة الملاصقة للجبال المجاورة والتي لا يفصلها عنها سوى خندق تم حفره يدوياً، حيث لجأ المدافعون عن القلعة بعد إحدى الغزوات ( وعلى الأغلب هم الذين نجحوا في فتحها واحتلالها بعد هدم دفاعاتها) إلى تحصينها بالسرعة القصوى, فكان الحل الأنسب والأسرع لهم هو بناء جدار ثان يحيط بالأول ويدعمه دون الحاجة إلى الخوض بالترميمات وما تتطلبه من جهد ووقت..

بالرغم مما عانته القلعة من إهمال وتخريب وأعمال استصلاح لسطحها إلا أننا نلاحظ عدداً لا بأس به من الأقبية ومعظمها في حالة معمارية جيدة لولا أيادي التخريب التي طالتها ربما ردماً وحفراً في جدرانها بحثاً عن كنوز وهمية مفترضة.

وقد تمكنا من ملاحظة ستة أقبية وأساسات ومغارة تم استخدامها, رغم شكنا بوجود المزيد من الأقبية أو بقاياها من خلال الجدران والأساسات التي تطالعنا حيثما سرنا, وتم توثيق خمسة أقبية منها يبلغ طول أحدها 14 متراً.

ولقد تميزت القلعة بمجموعة من العناصر المعمارية عن بقية القلاع الأخرى فقد عالج بناء القلعة موضوع النوافذ وحرامي السهام والأقواس والعقود بأبسط الطرق واسرعها فلا نلاحظ هذا التكلف في البناء بل البناء بأسرع الطرق مما يوحي. بخطر يحيط بهم, فكانت الغاية تأمين الحماية ولو على حساب الدقة الفنية في البناء.

إن المخطط العام للقلعة يشبه إلى حد كبير المخطط العام لقلعة صلاح الدين رغم الفرق الكبير بالحجم, إلا أنها تميزت عن قلعة صلاح الدين بأبراجها التي لوحظ منها أربعة أبراج واضحة, حيث نجد البرج الشمالي الشرقي يتألف من جدارين متتاليين إلا أنه يتميز بواجهته الشمالية والتي يشكلها جزء من مضلع غير شهير, كما لوحظ في هذا البرج نافذة بإشراف مميز على المنطقة المحيطة.

تم بناء  القلعة من الصخر الكلسي ذي المنشأ الرسوبي والمتواجد في تلك المنطقة بكثرة, إذ تعد الهضبة الصخرية التي بنيت عليها القلعة وما حولها مقلعاً طبيعياً لأحجار البناء, وهذا الصخر يتميز بقابلية جيدة للقص بالوسائل التقليدية, كما يتميز بمتانة ومقاومة وتماسك جيد مع معظم أنواع البلاط.

خديجة معلا

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار