الوحدة: 26-7-2020
تعصف بنا هذه الأيام، نحن السوريين، ظروف ترتقي في قساوتها مرقى الخيال فالضائقة الاقتصادية تكاد تخنق الجميع وما اجتمع اثنان إلا كان حديث الغلاء ثالثهما بل أضحى الغلاء قريناً يلازم الأفراد ويجعل من مشهد المتحدث إلى نفسه في البيت والشارع أمراً اعتيادياً، أرباب البيوت ورباتها أوكلوا الأمر إلى الرب الواحد الأعلى فالجيوب فارغة والمطابخ خاوية والأفواه فاغرة وصار تأمين اللقمة أصعب من اصطياد العصافير بالسنارة، هي ضائقة لم يعهدها السوريون بعد الاستقلال قط.
مع بدء الحرب على سورية توالى الحصار على الصامدين داخل أسوار قلعتها بشتى أشكاله، حصار سياسي وإعلامي واقتصادي وصحي وعسكري وحربي بناره وباروده وإرهابه، عشرٌ عجاف والقلعة لازالت تصدّ الكرة تلو الكرة وحيث تنفتح ثغرة في أسوارها يسدّها أخوة التراب الصامدون بأجسادهم ودمائهم فالوطن غال يستحق التضحية والفداء، واليوم يريد جلاوذة العصر اتباع سياسة التجويع حتى التركيع مع السوريين بعد أن هيؤوا الظروف المواتية لهذه السياسة خلال سنوات الحرب العشر، البنية التحتية والبشرية تم استهدافها، البنية العقلية والفكرية تم تضليلها، البنية الصناعية تم تدميرها وسرقتها، الموارد الباطنية تم تحييدها أو السيطرة عليها، حتى خبز السوريين تم حرقه سنابلاً في الحقول، في الشمال يتربص أحفاد أصحاب مأساة (السفربرلك) وأذنابهم من الإرهابيين الملتحين وفي الجنوب يقبع أصحاب مجزرة دير ياسين الحالمين بكابوس يمتد من الفرات إلى النيل وفي الشرق لازالت طائرات الإمداد الأمريكي ترفد قطعان الدواعش والانفصاليين بإكسير البقاء وفي الغرب يتسابق معنا أخوتنا اللبنانيون في ظروف الضائقة تأكيداً لأغنية فيروز (سوا ربينا)، في ظل هذا الواقع الأليم يواجه المواطن السوري اليوم ضربة مزدوجة، قانون قيصر من الخارج وفوضى العلق في الداخل.
بالنسبة إلى قانون قيصر فلا يعدو كونه ثقباً إضافياً في غربال الحصار الاقتصادي الذي يتعرض له الوطن إذ كنا حتى في ذروة زهونا وانفتاحنا الاقتصادي محاصرين ومهددين، أما موضوع فوضى العلق في الداخل فهو حديث ذو شجون، علقات الداخل من ضعاف النفوس وعبيد الفلوس يستغلون كل ظرف في سبيل زيادة مكتسباتهم ونفخ خزائنهم شأنهم في ذلك شأن كل تجار الحروب على مر الزمن، يلتصقون كالعلق بجلود ضحاياهم ويمتصون دماءهم لكن في الحقيقة العلقة حيوان هش لطيف يستخدم في علاج الانتباج الدموي يمتص حاجته من دم المريض ويسقط عن جلده بشكل عفوي أما العلقة التي ابتلتنا الحرب فيها شرسة نهمة تلتصق بجيب المواطن وتمتص كل ما فيها ليسقط المواطن عنها بشكل عفوي من شرفة الطبقة الوسطى إلى فناء قبو الطبقة الفقيرة مترهلاً هش العظام غضّ الهيكل، الطبقة الوسطى التي تميز المجتمع السوري بانتماء جلِّه إليها بدأت بالتلاشي وصارت وسطى بلا طبقة بينما يزداد تكدّس الهياكل الهشة في قبو الفقر والمصيبة أن العلقات الجشعة بطبيعتها تريد أن تهوي بالمواطن ثانية من قبو الفقر إلى قاع المجاعة وهذا ما لا يجب أن يحدث، هذا ما لا تُقبَل مبررات حدوثه فسورية بلد الخير وعنوان العطاء وشعب الشمس الذي صمد في خنادق النار والبارود وانتصر على وحوش الحرب وأغوالها لا يقبل أن يسقطه قانون قيصر ولا فوضى العلق والطفيليات، تحت هذا العنوان يتوجب حكماً على كل صاحب مسؤولية في الوطن أن يضطلع بواجباته ويرتقي بشخصه ومنصبه إلى مستوى المسؤولية، عليه أن يتصرف كقائد ميداني في ساح الحرب ضد فوضى العلق وكلمة قائد ميداني لا تعني أن ينزل المسؤول إلى الميدان برهة من الوقت مدجّجاً بآلات التصوير وأضواء الإعلام ليتحف المراقبين بابتسامة صفراء ملّتها النفوس وقرارات لا يتجاوز تنفيذها حدود آلة التصوير المنتصبة أمامه، ميادين المسؤولية تحتاج رجالها الأكفاء المبدعين في زمن الحرب والحصار، رجال يتعالون عن تبرير العجز بشراسة الحرب وضعف الإمكانات، في هذا الوقت العصيب تحتاج مياديننا إلى رجال مهمات العمل الصعبة والقرارات الاستثنائية التي تزيد التلاحم بين الشعب والحكومة والقيادة، نحتاج إلى رجال يقطفون العلق عن الجلود ويحيلونه سماداً يستخدمه المواطنون لزراعة ما تيسر في حدائقهم وشرفاتهم، اليوم نحن في حرب تقرير المصير ويجب أن تكون حرب حسم وميدانها ميدان فصل البقاء في نهايتها إما لرجال يقطفون العلق أو لعلق يقطف الأرواح قلعة سورية يجب أن تبقى شامخة على جبل الصمود ودماء الشرفاء يجب أن تبقى راية من نور ونار على أسوار الوطن لا سلعة يتاجر فيها علق الفوضى في مزاداته.
شروق ديب ضاهر