بين الشط والجبل .. إجازة قصيرة

الوحدة 23-6-2020

 

أنا هنا كي أستريح.. كان يخاطب نفسه من وراء تلك النافذة البحرية التي تحاكي زرقة بريئة من أي شبهة الا النقاء.. فنجان قهوته البارد يشي بأشياء كثيرة ودفينة..

قلمه يستلقي متعباً فوق صدر الورق.. لن يكتب زاويته الأسبوعية هذه الفترة.. هو كصحافي مخضرم لا يريد أن يخوض أي نقاش شائك هذه المرة لأنه يشعر بعدم الجدوى في محاربة طواحين الهواء.. لا يريد أن يكرر كتابته عن الأسعار وبعض السلع المزورة وجشع التجار.. لا يريد أن يكتب عن متسولي الأرصفة إن كانوا صادقين أم لا.. كانت كل رغبته أن يأخذ إجازة قصيرة.. يتبادل فيها الأسماء والأغنيات مع الشجر والعصافير والشرفات المزروعة بالياسمين..

عبثاً يحاول أن يطرد من ذاكرته شخصية (جان فالجان) من رواية البؤساء للأديب فيكتور هوغو، تلك الشخصية التي لام نفسه مراراً في طفولته لأنه تعاطف معها وكان يسأل نفسه مراراً كيف يتعاطف مع سارق الخبز والأطباق الفضية.. ذلك السارق الذي خطف رغيف خبز لأنه كان جائعاً جداً فحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات كانت قابلة للتمدد إلى تسعة عشرة سنة بسبب محاولات هروبه المتكررة.. كيف تعاطف مع جان فالجان وأحبه رغم أنه لم يبرر لنفسه فكرة سرقة كسرة خبز صغيرة أو حتى ثمن طابع بريدي..

هل هو سحر الأدب العظيم الذي يجعلنا نناقش أشياء غريبة في أعماقنا.. ونتابع تطور الشخصيات بشغف ونراقب تأثير المحنة التي تصقل تلك الشخصية وتكويها بنار الواقع حتى تتصعد من فحم الى ماس حقيقي يسكننا بجوهره..

أخذ رشفة قهوة.. وتذكر كيف شعر بالإحراج آخر مرة اشترى فيها القهوة من البقالية المجاورة وبعد شراء حاجيات المنزل ليكتشف إن ما بقي في جيبه لا يكفي لشراء (أوقية).. وكيف أخبره صاحب البقالية ساخراً أنها تواكب الذهب في صعود سعرها المستمر…

أخذ رشفة أخرى.. وهو يحاول أن يطرد من ذاكرته عبارة زوجته حين خاطبته في لحظة ضيق وغضب قائلة: (أنا لست بطلة من أبطال الروايات التي تكتبها أو تقرأها حتى أخيط من ستائر المنزل ثوبا وأبدو لائقة فيه لحضور مناسبة اجتماعية.. أسعار الملابس أصبحت خيالية وبحاجة إلى راتب إضافي أيضاً..

صوت فيروز كان بمثابة سفينة النجاة من غرق بات وشيكا في زحمة المشاعر والأفكار والهموم…

وحدها زاوية هذا المقهى الصغير تحتضنه مرة كل اول شهر وتبث في نفسه الطمأنينة، يرتب فيها أفكاره وأوراقه وحتى حساباته والتزاماته المادية..

حين جمع شتاته وهم بالخروج.. فتح عينيه بقوة ليتأكد من الرقم المدون في فاتورته البسيطة.. كاد أن يقول أن هناك خطأ ما..

لكنه غادر بصمت وهو يدرك تماما أنه أصبح غريباً عن هذا المكان الصديق.. والذي لن يستطيع أن يستقبله في المرات القادمة..

منى كامل الأطرش

 

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار