الخـــــــارطة الغــــــذائية خالية من اللحـــــوم والحلويات ومشتقاتهما

العدد: 9298

الأحد-24-2-2019

 

 

وجوهٌ سوداء مكفهرّة، لا ضاحكة مستبشرة، تنقّل أبصارها بين الألوان الزاهية من الأصفر إلى الأحمر إلى الأخضر فالبرتقالي و…، يقف البعض متأمّلاً أشكالها وأحجامها يشرد ذهنه بين أسعارها، بطاقة مقلوبة هنا، وبطاقة تتصدر ذاك الصندوق هناك، يشيح بنظره عن بعضها، ويمعنه في بعضها الآخر، يتجاهل ويهرب من أحدها، وتراه يتقرّب ويغازل أحدها الآخر، وبعد أخذ ورد، يتخذ القرار الأصعب والأجرأ في خطوات حياته اليومية، ويمد يده إلى أحد تلك الأكياس الفارغة عله يملأه بما يسد رمق عياله وعائلته، ليضع فيه حبّتين أو ثلاثاً، جزرة أو اثنتين، وإن صغر حجم ما يبتاعه يقوّي قلبه ويغرف حفنةً، يعلم في قرارة نفسه أنها قد تكلفه الكثير وربما تقع عيناه بالخطأ على ما ليس أوانه وموسمه، فيباغته البائع ويُسابق سؤاله ونظراته بالقول: الأخضر اليوم بتسعمائة أو ما قاربها، – وكل الله يا رجل- أهذه بورصة أسعار الدولار والذهب أم بورصة الفول والفاصولياء والخيار والبندورة والكوسا والباذنجان و.. هذا غيضٌ من فيض ما يواجه أياً منا في رحلته اليومية الأصعب إلى محال الخضار والفاكهة، المحال الأكثر زيارة وارتياداً لكنها الأكثر استنزافاً لجيوبنا ونقودها.

وليس بعيداً منها، محال الألبان والأجبان، تراها مكتظة فيخيّل إليك أن أسعارها رخيصة جداً، لكنها لا تقل بورصة عن سابقتها، فهي ثابتة إلى حد ما، رغم الزيادة التي طرأت على أسعارها مقارنة بالسنوات السابقة، حتى هنا، ترى الناس تتجه إلى شراء اللبن واللبنة أكثر من الجبنة التي حلّقت وتحلّق أسعارها دائماً، ولم يعد بالإمكان فسح مجال لها على أحد رفوف البراد أو بين أطباق المائدة.
وتسير قليلاً، فتوخز أنفك رائحة ليست غريبة، أقفاصه الصفراء الخاوية ترحب بك، إنه الفروج، ومن قال إنه لا يطير؟ أثبتت الأسواق السورية وبمعجزة خارقة أنه يطير ويحلّق وعلى ارتفاعات عالية جداً، تطأ قدماك محاله، وأنت مدرك حجم الفعل العظيم الذي تقدم على اقترافه، لم لا؟ ألسنا بشراً كغيرنا ويحق لنا مغازلته ولو يوماً في الشهر؟ الجواب وبكل ثقة: نعم وبلى وأجل! إذ ما زال يزين موائد الكثيرين طالما أن قيراطه ربع قيراط لحم الغنم أو البقر، اللذين إن سألت أحداً عن محالهما سينبش كثيراً في ذاكرته عن موقعهما الجغرافي الذي سقط من حسابات وموائد ومخصصات الشهر عند الغالبية، واقتصر ابتياعهما على أصحاب الطبقة المخملية المرصعة جيوبها بالأخضر واليورو.
أما الأسماك فحدث ولا حرج، لها نشرة أسعارها وبورصتها الخاصة وبمقدور الفقير إن جاءته رزقة – من غامض علمه- شراء بعض أنواعها التي تتلاطم الأمواج أسعارها بين عاصفة وأخرى.
تحثّ الخُطا في شوارع مدينتك أو حارتك، تفوح روائح شهية من هنا وهناك، تضعف حيناً تجاهها، وتطنّشها ولا تعيرها بالك حيناً آخر، إنها الوجبات الجاهزة، شاورما، فطائر ومعجنات، مأكولات شرقية وغربية، يتسيّدها الفلافل، أكلة ولحمة الفقير، تشدك رائحته أينما كنت وتميزها على بعد عشرات الأمتار، تناديك وتدعوك إلى التهامها في أي زمان ومكان ليبقى محافظاً على صدارة المجموعة برصيد شعبي كاسح، يسدّ رمقك بأرخص الأسعار، ويبيض وجهك –طال عمرك- وأنت تدفع عن أحدهم حساب (سندويشته) بكل ثقة وجدارة وقوة قلب.
تعود إلى منزلك وقد امتلأت يداك محمّلة بالأكياس، وفرغت جيوبك من الاساس، لتفاجئك أمك أو زوجتك أو ربة منزلة، بالخبر العاجل الصاعق، ضيوف في ديارنا، على الرحب والسعة، ولا بد من بعض الحلويات، تُسعد بها أهل بيتك وتقوم بواجب ضيفك وتُكرمه بما لذ وطاب، فتعود أدراجك وتنزلها متثاقلاً متسائلاً: أي صنف سأشتري؟ أيُّها الأرخص؟ من الأنظف والأطيب؟ غربية أم شرقية؟ ناشفة أم مقطّرة، مكشوفة أم مغلفة؟ تحث خطواتك وتدخل أحد محالها، تتجول بنظرك هنا وهناك، تلقي التحية على بطاقات الأسعار قبل أن تلقيها على صاحب المحل، ترتبك وتعلو وجهك أمارات الخوف والارتباك، وتدخل في سجال طويل مع البائع، بكم هذا؟ وكم شخصاً قد يكفي؟ أو بالقشطة أو الجبنة؟ وذاك بالجوز أو التمر أم فارغ إلا من السكر وبعض المنكهات… الخ؟ لتنهي الأمر وتحسمه بالسؤال عن الأكثر شعبية (المشبّك أو العوّامة) فيأتيك الجواب المنتظر: لا نبيعهما، إذ تُخصص لهما محال او أركان معينة لابتياعهما، فتخرج باحثاً عن ضالتك في أزّقة وسراديب الأحياء الشعبية، فالراقية تبرّأت منهما منذ زمن بعيد.
وإذا كانت زيارة ضيفك ثقيلة، نقصد طويلة، لا بد من –المازة- وتوابعها وحواشيها، متة، موالح، فواكه، قهوة…، وإن استغرقت أياماً، فلا بد من سحب قرض أو استدانة مبلغ ليس بقليل، فإكرام الضيف واجب، هكذا ترّبينا وتعلّمنا في بيوتنا ومدارسنا ومدارس آبائنا وأجدادنا، الذين كانت موائدهم عامرة وخيرها كثير، وما يزيد عنها أكثر مما ينقصها، فها هو طبق الفاكهة المترف يزيّن هاتيك الموائد والطاولات ولا يبرحها، أما اليوم تضع في صحن ضيفك حبة أو اثنتين، ولا بد أن يكون البرتقال بأصنافه وأنواعه المتعددة واحداً منها، لا بل أساسياً فيها، لاسيما وأنه الأرخص ثمناً والأكثر انتشاراً، ولسان حال أهل البيت يقول: لو بإمكاننا طهو البرتقال، مفرّكة أو يخنة أو مقلياً أو مشوياً..؟ كم كان سيوفر علينا ويُعيننا في تلبية حاجات بطون أبنائنا وسد أفواههم الجائعة، بعد أن سقطت البطاطا التي بقيت لسنوات لحمة الفقير من حسابات الغالبية إذ ناهز سعر الكيلو منها خمسمائة ليرة، حتى البصل، تخيلوا وصل سعر باقته تسعمائة ليرة، وهو الذي تغنّى به الآباء والأجداد (خبزة وبصلة وزيت أغلى من وجبات الدنيا كلها)، أما البقدونس والخس والنعناع وباقي الحشائش الخضراء فالمضاربات على أشدها، وبحسبة صغيرة أصبح طبق السلطة أو التبولة (الأكثر شعبية ورواجاً) يكلّف ثمناً باهظاً يضاهي بعض الوجبات الجاهزة كالفروج المشوي مثلاً إن لم يتفوق عليها، أما الفجل له ميزانيته وطقوسه الخاصة؟!
ويبقى الخبز سيد الموائد والخط الأحمر الذي لم تطله نار الأسعار وسعيرها، قوت الناس وسبب بقائها وعيشها، رغم محاولات البعض افتعال أزمات له لكنه بقي أبيض مهما اسمر أو اسود وجهه.
أما باقي المأكولات والمشروبات، كالحبوب مثلاً، والقهوة والشاي والمتة… إلخ، فأسواقها متذبذبة كما حال البيض الذي تبيضه دجاجاتنا بالدولار (وما حدا أحسن من حدا).
ولئن كانت نشرات الأسعار التي تصدرها مديريات التجارة الداخلية وحماية المستهلك في وادٍ والأسعار الحقيقية لأسواقنا في وادٍ آخر، تبقى المضاربات بين التجار على أشدها والتلاعب بالأسعار والأسواق والناس على هواهم، لتأتي الضربات المتلاحقات على رأس هذا المواطن المسكين، الذي تراه يبحث بالسراج والفتيلة عما يأكله وأبنائه.
ترى ماذا تأكلون؟ فطوركم وغداءكم وعشاءكم؟ أي الأطباق أكثر حضوراً على موائدكم؟ أي فتة يوم الجمعة؟ أم مجدّرة آخر الشهر المكللة بالكزبرة؟ أم الشنكليش والزعتر هذان الصامدان في وجه الغزوات والحرب الطاحنات، أم الأرز أم المعكرونة أم زيت وملح أم…؟! وهل ما زال البرغل مسمار الرّكب؟ والعزّ للرز؟
لا شك أن أثمان ما نأكل تضاعفت عشرات المرات عن أثمانها قبل عشر سنوات، وما نشهده اليوم من غلاء فاحش دفع وسيدفع الكثير إلى ابتياع حاجته بالوحدة لا بالوزن، حبّتا بندورة، باذنجانة واحدة، خيارتان، ثلاث جزرات، 20 غ بقدونس أو سبانخ.. فيكون الناتج وجبة محدودة بعدد الأشخاص، دون زيادة أو نقصان، أما النتيجة الأروع خسارة الأوزان بأقل الأثمان، بدون وصفات طبية ولا نُظم أو نصائح غذائية، نباتيون مُجبرون لا لاحمون، صوم في غير أيامه، تقتدون بأمثال الأجداد فالمعدة بيت الداء، ثلثها لطعامك إن وجد، وثلثها لشرابك وثلثها فارغ إن لم يكن كلها، ونأكل لنعيش لا نعيش لنأكل.
معكم نستعرض في الآتي وجباتكم اليومية: ماذا تأكلون؟ وعمّا تستغنون؟ وبم تستعيضون؟ علّنا نسلط ضوءاً يسد رمقكم ويُعمي بصر تجارٍ أفقدهم الطمع والجشع جلّ إنسانيتهم، فأصبحوا جلّادين بقلوبٍ من حجرٍ وآذانٍ من طينٍ وعجين.

ريم جبيلي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار