العدد 9537
الثلاثاء 25 شباط 2020
مذْ كنت صغيراً، وأنا أحلم بدربٍ يغطّيه الغبار, ويمتدُّ امتداد رؤية العينين، تنمو على حوافيه زهورٌ بيضاء وحمراء وصفراء، وتحوّم حوله فراشاتٌ ملوّنة, وعصافير مزقزقة، لكن حلمي تبدد منذ أمد، فقد غطى الإسفلت كل طرقاتنا, واحتضرت تلك الورود، قتلها فيء أشجار السرو العملاقة، ونأت كل العصافير, وهاجرت الفراشات الملوّنة، فمات الحلم الصغير, واسودّ وجه الدروب.
***
هو الحنين ينفلت في حدائق عمري, يتموَّج أزهاراً ووجعاً، وجفَّتْ من حوافيه قطرات الندى وظلَّ لقلبي َبوْحه الذي لا يفارقهن يمضي يخط على جدائله سطور هواه ويسأل عن زمان ضاع في الزمن.
كان قد أوْجَعهَ نحيبُ المراكب المسافرة بلا تلويحةٍن فأرسل بكاءه حتى كاد يغرق في النشيج.
على خاصرة الموج وتدت خيمتين أشرعتها للريح والموج يصافحانها في غدوهما والإيابن وفرشت ضلوعي متكأ لذكريات مسافرات وأرسلت تنهيدةً معاتبةن وتمنيت لو يوماً رشَّ الفجر قطرة نداه على صباح مفرح.
مملوءاً بالقلق مشيت على الشط حافياً، أدفأت حبات الرمل قدمي الباردتين فانسلَّ الدفء كلصٍ وغمرتني فرحةٌ أنستني قلقين وتمليت نورساً يكرج قدامين فأخذتني الدهشة، لم أره إلاّ محلقاً وفارشاً جناحيه فوق سطح البحر الأزرق وماطاً رقبته, وعيناه متسمرتان على سمكة تمخر العباب.
يكاد صوتي لا يبين.. فالغياب أوجعني وأثقل يدي عن تلويحة الوداعن والمدى غطّاه سراب خادع فأضحى كغلاة متموجة، فصرت مثل موجة هاربةٍ من ريحها, وراحت خطواتي تتكسرّ فيما بينها، فألقيت بجسدي إلى رملٍ يناكدني.
***
يقول الشاعر محمود درويش: ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للحنين إلى أحد أيها الشاعر، نعرف حجم غربتك وأنت في وطنك، ونحن وأنت متفقون على أن لا شعر بلا معاناة، ومن هنا جاء تمايزك عن شعراء عصرك.
وأنا واثق من أنك وحيث أنت وفي عالم آخر، هناك أماكن مملوءةً بالحنين لأهل ووطن وأصدقاء.
سيف الدين راعي