إبراهيـــــم صقـــــر.. وتـــــرٌ يأبـــى أن يتقاعــــــد

العـــــدد 9517

الثلاثــــــاء 28 كانون الثاني2020

 

متكئاً على صخرة (عين الديرني)، ومظللاً بحورات وادي كنكارو، صدح أبو عاطف بأول (أوووف)، وخيل له شيطان الشعر أول بيت من (العتابا)، ليصدر بعدها الإعلان الرسمي عن ميلاد مطرب كبير، سيخلده تاريخ التراث الساحلي بعد حين.
من منّا لا يعرف المطرب إبراهيم صقر (أبو عاطف) ابن حمّام القراحلة، وعميد الأغنية الشعبية الساحلية، بل سفيرها فوق العادة إلى أرجاء الوطن ودول المهجر؟، ومن حمل بصوته وإحساسه أدقّ تفاصيل الحياة في الساحل السوري، فتغنّى بجمالهم وعاداتهم، واختلس السمع إلى نبضات قلوبهم، علّم صبايا الريف العشق، وزيّن شعرهن بـ (نجوم) السماء، قطف الأقمار وعصرها في مساحيق حمرتهن، غنّى الحزن، أو رأيتم أحداً يغنّي الحزن؟.
ميلاده . . .
ولد عميد الأغنية الساحلية عام ١٩٣٩ في بيت يعشق الشعر والغناء والعتابا، فوالده كان شاعر القرية ومطربها، وكان عازف ربابة متمكناً لطالما تمايل محيطه على أنغامه السحرية.
ورث (أبو عاطف) هذه الجينات، وبدأت مواهبه تتفتق منذ نعومة أظفاره، فجاد بأول بيت عتابا قائلاً:
(جعود الشعر من غيري . . . . يمسكن
برضاك وبمسك عنبر . . . . يمسكن
عجب متصييحي ابراهيم يا مسكين
وأنا قبالك . . ابن . . . غانم . . . . دياب).
انتبه والده إلى الموهبة المتوقدة لديه، فشجعه وأثنى عليه، وطالبه بأن يغني ويُفرح الناس بما منّ الله به عليه، لتشهد بعدها قريته الجميلة ولادة شاعر ومطرب وعازف عود متمكن، سينتشر صيته في أرجاء البلاد بعد حين.
مع قريته . . .

 

أحب مطربنا قريته حمام القراحلة حباً لا حدود له، فغناها في كل المناسبات، ورفعها إلى حدود الغيم، حتى أضحت عنده أجمل من جنات النعيم، ومن دنيا الله الواسعة، فقال فيها:
(عيني محلا التطليعة
بكروم التحت الضيعة
بتسوى جنات النعيم
ودنيا الله الوسيعة).
ولدى مقارنة قريته ببلدان العالم، لم يتوان عن جعلها الأيقونة الأولى، فقال:
(بتسوى القعدة بالحمام
مصر وتونس والدمام
بتسوى عندي كل الشام
وجناينها . . . البديعة).
وفي العنفوان والأنفة، حضرت حمام القراحلة أيضاً في شعره ولحنه وصوته، فعندما فقدت قريته خيرة رجالها، وأحد أبطال حرب تشرين العميد علي جحجاج، صدح أبو عاطف قائلاً:
(يا حمام بالعلا زايد عليك
ما قدر الزمن بصمودك عليك
فقدت البطل جحجاحك عليك
وغيابو علمك كيف النحاب).
وإثر تلك الفاجعة، غنى مطربنا الحزن على أصوله، وقدم عملاً رثائياً، يعتبره كثيرون أحد عوامل تخليده كمطرب وشاعر وملحن، إذ يقول:
(كنت خي العذارى والنواهد
صبحت بي الثكالى والنواهد
فُجعنا بأبي رامز والنوى هد
ركن بيت الكريم الما نعاب).
وأردف قائلاً: (يا وتاري ابكي وعني . . بو رامز راح . . وشو بدو يوصف فني بعلي الجحجاج . . . اللي ترعرع بروابيكي، وخيراتك جاب . . المفروض نحرّم فيكي بعدو الأفراح . . بكيتي معنا يافرقة. .. وبكّيتي الشام . . . عمّان ومعها برقة وشعب الدمّام . . ويا دهري شو هالمرقة بقلب الحمّام.. وشاطر تاخذ بالسرقة رجال الملاح..).
حياته . . .

 

التحق فنان الساحل بالخدمة الإلزامية في عام ١٩٦٠، قبل أن يتطوع في الجيش، ويصبح مطرباً في (سهرة العسكر) بناء على طلب الإدارة السياسية في الجيش العربي السوري.
بقي أبو عاطف يسجل سهرات العسكر طيلة خمس سنوات قبل أن يقدم نفسه للإذاعة بعدد كبير من الأغنيات الجميلة، منها:
(من يوم غيابك عني يا سمرة صار
عودي يبكي ويغني من دون أوتار)،
(وتسلملي العينين الكحلا
ال حبيتا وقلبي بيرتحلا).
كم قدم جملة من مواويل العتابا والميجانا، وباقة من الأغاني الوطنية، نذكر منها:
(يا حافظ الأوطان، بالعز تبدو شامخاً يا موطني، لا ينحني الغصن المروى بالدماء).
في هذه الأثناء بدأ أبو عاطف بالانتشار في كافة أنحاء القطر، فأقيمت له الحفلات العامة وسط نجاح يتلوه نجاح، مما دعا شعراء العتابا للدخول في حوارات شعرية معه، فقد لفت صعوده القوي انتباههم، وبات لزاماً عليهم أن يجابهوا هذه القامة المحترمة، فكان اللقاء مع درويش الحمود، وصالح العبد الله، وسليمان دلا، وصالح رمضان، وشادي ياسمين، ولقاءات عديدة أبرزها مع الراحل الكبير فؤاد غازي.
يقول أبو عاطف: كل الحوارات الشعرية كانت ارتجالية، وكل الحدة في ردود العتابا كانت حقيقية، إلا أنها كانت تنتهي مع انتهاء السهرة، وكنا نتراضى ببيت عتابا أو بابتسامة صغيرة.
تابع مطربنا مسيرة حياته الفنية بعدما أنهى خدمته العسكرية، ففتحت أمامه دول العالم بإلحاح من الجاليات العربية هناك، حيث زار البرازيل، وألمانيا، وقبرص، وأستراليا، وتركيا، وأقام العديد من الحفلات الجميلة كما يصفها.
يقول أبو عاطف: رغم الشهرة الواسعة التي نلتها على الصعيد المحلي وعند عرب المهجر، إلا أنني ظلمت كثيراً من الناحية الإعلامية، وتم التعتيم على فني بطريقة مريبة، فبقيت في دائرة ضيقة، ولولا ذلك، لأصبحت نجماً على مستوى العالم، (والكلام دائماً لأبي عاطف).
نبع عطاء لا ينضب . .
يسخر أبو عاطف من سنين العمر، ويعتبرها أرقاماً لا قدرة لها على إيقاف عطاء الفنان، فرغم بلوغه الثمانين لايزال يمتلك الرغبة والقدرة على تقديم المزيد، متسلحاً بصوته الجميل الذي لم تتعبه السنون، وها هو يثبت كلامه بإصدار جديد قبل أيام بعنوان:(لاقيني يا محبوبي على الكورنيش الجنوبي)، من كلمات وألحان نجله الشاعر والموسيقي عاطف صقر.
العائلة . .
أنجب عميد الأغنية الساحلية عائلة فنية مميزة، فكان درة تاج العائلة الأديب والشاعر والموسيقي عاطف صقر، الذي تفرد في إعطاء والده كل الأغاني التي قدمها باللغة الفصحى، إضافة إلى العديد من الألحان المميزة.
وتضم العائلة أيضا الأستاذ هاشم، وهو أيضاً عازف عود ومغن، وقفت مشاغل الحياة حاجزاً أمام إبراز فنه للعامة.
ولا يسعنا أن ننسى الابن الأصغر عروة، وهو عازف (أورغ) معروف، ورفيق درب والده في العقود الثلاثة الماضية.
جدير بالذكر أن كل ما قدمه الفنان ابراهيم صقر هو من كلماته وألحانه باستثناء ما أخذه من نجله عاطف.
نظرته للفن الشعبي حالياً..
يقول أبو عاطف: إن ما نسمعه في هذه الأيام يعتبر فناً هابطاً بكل ما للكلمة من معنى، فلا عنوان ولا مضمون، ومن كل زاوية كلمة، وأنا أستغرب كيف قبلت الناس بهذا الفن، فالجمهور يقوم ويقعد على أغنية ولحن هابطين، وأنا أدعوهم لمقارنة بسيطة بين ما كان يقال سابقاً، وبين(ترشرش)، لأنهم سيعرفون حينها أن الذائقة الفنية تعرضت لنكسة حقيقية.
وأضاف أبو عاطف: الأغنية الشعبية وخاصة العتابا هي فلكلور الساحل، ومن غير المسموح أن يغني أحدهم بيت عتابا (مهزهز) بكل معناه، فتقوم الدنيا ولا تقعد، في حين نقدم لهم بيتا من أجمل ما قيل، فنراهم (خشبً مسندة)، وكأنهم لم يفهموا شيئاً..
هل من نصائح عند أبي عاطف؟…
لا نصائح بجعبتي قد تفيد لا من قريب ولا من بعيد، فقد قدم غيري جملة من النصائح، ولكنه لم يستفد شيئاً، وبإمكاني استبدال النصيحة بعتب على الإعلام الذي يسلط الضوء على من يطعنون بالفن الشعبي بما يقدموه، فالإعلام يساهم بانتشار هؤلاء، ونشر فنهم الهابط، فهم لا يبرحون شاشات التلفاز في كل المناسبات، وكأن الدنيا خلت من غيرهم.
ختامها مسك . .
ختم أبو عاطف حديثه معنا، بتوجيه التحية إلى الجميع، وإلى جمهور الأغنية الشعبية خاصة، واعداً إياهم بتقديم المزيد مازالت العروق تنبض..
وإليكم آخر بيت عتابا قاله الصقر:
(لولاكي بظن ما في الكون عيش به
وما كون فيه ربي شبيه ….ع شبيه
وما نبتت على وجه الأرض عشبة
ولا بالسنة . .. شوال . . . . ورجب)
بقي فقط أن نسأل، ألا يستحق هذا الفنان أن يكون عريساً في مهرجان تكريم خاص به في محافظته؟..

غيث حسن

تصفح المزيد..
آخر الأخبار