العدد: 9434
الخميس :26-9-2019
. . ولشدّة سواد عينيه تظنّ أن ليلاً (كانونياً) هارباً ومذعوراً لجأ إليهما، لم يكن ذا مالٍ وفير، ولكنه كان غنيّاً بكلّ تفاصيله، كبيراً بكلّ مفرداته، وتحسّ أنّ العالم كلّه مجرّد جزئية صغيرة في سعة حضوره..
رأيته ذات يوم وهو يضع يده على خدّه الأيمن، ويتضوّر ألماً ووجعاً على غير عادته، سألته الخبر فقال إنّه خلع ضرسه، وإنّ ذلك يؤلمه!
علقت تلك اللقطة في ذاكرتي لأنه ليس من عادة (عيسى) أن يعلن وجعه، وعادت إلى الحضور في الوجدان، وستبقى فيه، عندما جلستُ وإياه داعياً له بالحفظ والصون، وقد دُعي إلى الخدمة الاحتياطية قبل بضع سنوات… كان يجوب المكان الضيّق (غرفة) جيئة وذهاباً، وراح يشرح لي عشقه للوطن، والذي لا يقبل أن يُشكك به، وكم يتألم مما حلّ بـ (سوريتنا)، وكم عقّ من أبنائها، وكم…
ذكّرته يوم تألّم من خلع ضرسه، فضحك بصوت عالٍ وقال: تصوّر، نتألم من خلع ضرس يمكن أن (نركّب غيره)، فكيف لا يتألم البعض وهو يرى أن هناك من يريد أن يخلعه من وطنه أو يخلع الوطن من قلبه؟
بعد شهرين ونيّف، عاد (سودٌ . . عيونه سودٌ) بعينين خضراويين يزيّنان علماً يحتضن جثمانه، صلّى المصلّون وكبّروا، ومن بين الجموع يندفع طفلٌ في الرابعة من عمره أو أكثر بقليل ويقول بصوت مدوٍ: أنا سأستلم العلم، علم الجمهورية العربية السورية، لأني أنا من سيتابع حكاية أبي..
سوريتنا غالية جداً، ولن نسمح لأحد أن (يخلعها من قلوبنا)، وإن كانت من يدٍ عابثة (داخلية أم خارجية) فالبتر مصيرها..
نثق أننا أصحاب المستقبل، وأننا أصحاب (مشروع الحياة)، ونعلم أن عقبات كثيرة قد تصفعنا لكنها لن تحرفنا عن (صراطنا)، فعينا عيسى الخضراوان أو اللتان ينام بهما ذلك الليل الكانوني، ما زالتا قادرتين على الإحساس بعظمة ما ننتسب إليه، وما زالتا قادرتين على دفعنا إلى كلّ ما هو جميل، وصوت ابنه المجلجل يعيد ترتيب الحسن في داخل كلّ منّا.
حاشاكم جميعاً، ولكن رائحة (مزبلة) في أي مكان في سورية أشهى من رائحة الدولار، فكيف وإننا ندافع عن الياسمين والضوء والحياة؟
شخصياً، ربما لا أفهم كلّ الإجراءات المتخذة، أو تلك التي يتمّ الحديث عنها لخلق واقع أفضل اقتصادياً واجتماعياً، وقد تكون في الاتجاه الصحيح وقد لا تكون، لكن أستطيع أن أفهم لغة (عيسى وابنه)، وأن أبالغ في الدفاع عن صحّتها لبناء وطن هو لنا جميعاً..
مجرد أن تضبط عاداتك الاستهلاكية فإنّك تساهم في بناء بلدك، أن تحسّن تربية ابنك فإنك تشارك في عملية التنمية، أن تتخلى عن عادة (البذر والمتّة) فإنك تصون مستقبل عائلتك..
من قال إن بناء الأوطان يكون فقط بالخطط الاستراتيجية (وكم فشل منها)، الوطن تبنيه (سيدة مدبّرة) تحوّل (نملية بيتها) إلى دائرة إنتاج وادخار، وتجعل من بضعة أمتار مربعة، أو حتى من شرفة بيت وسط المدينة حلقة إنتاج، تساهم بـ (قدر ما) في تحقيق الاكتفاء الذاتي..
لا شيء صعب على الإنسان السوري إلا استسلام البعض منه لـ (مقولات جاهزة) برع اللاهثون وراء تدمير ثقتنا ببلدنا وبليرتنا وبمستقبلنا إلى زرعها فينا، فهل نقع في الشرك؟
لا (أنظّر) من برج عاجي، وإني كأيّ موظف عادي تجلدني (حسابات الراتب) على مدار الشهر، وأدور على عشرين (بسطة) قبل أن أشتري البندورة أو البطاطا، وأشجّع زوجتي على (المكاسرة) عندما يتعلق الأمر بالألبسة، وأفرح عندما يأتيني ليتر زيت من (الضيعة)، ولكن أعرف تماماً أن كثيرين حريصون على بقاء الوضع على ما هو عليه، وحريصون على إذكاء النار في هشيم مخاوفنا من صعود الدولار أو التقليل من أهمية هبوطه، فنسبقهم إلى ما يبحثون عنه، ونرتمي في مستنقع عادات استهلاكية تناسبهم وتثقل كاهلنا من حيث لا ندري..
أعود إلى (سودٌ عيونه سودُ)، فكلّ قطرة دم طاهرة يجب أن تمنح نسمة حياة، ويجب أن تنبت إنساناً مخلصاً وأكثر قدرة على التفكير بإيجابية مواطناً عادياً كان أم صاحب قرار!
وحتى لا نغفل (جعجعة هذه الأيام)، ونقترب أكثر من الحديث والفعل فيما يخصّ مكافحة الفساد والفاسدين، فيجب أن يكون هناك فريقان منفصلان بهذا الخصوص، الأول مختصّ بـ (مسؤولين سابقين)، والثاني مختص بمن هم على رأس عملهم، فتأتي النتائج (أسرع)، وتقنع أكثر..
أستغفر الله لي ولكم، وأتمنى أن يعطيني الله خير هذا الكلام . .
غانم محمد