العــــــــــــــدد 9290
الثلاثـــــــاء 12 شباط 2019
يمارس العجوز رياضة المشي في شوارع المدينة ليلاً، يحفظ الطرقات التي يمر بها يومياً, فلا يعنيه انقطاع التيار الكهربائي ولا يفرح عودته، هنا رصيف مرتفع وهنا حفرة, عند المنعطف بائع فحم يشعل بعضاً منه, يمد يديه يتدفأ في برد غير عادي، هذا شارع بلا رصيف, وهذا رصيف متين، الحفر تملأ المكان، لا بد من وجود عطل كبير، يبتعد عن بائع أحذية مستعملة, يهرب من روائح منبعثة من المكان، يلفت انتباهه ازدياد محلات البالة في الشارع, يسرع الخطى, ينعطف باتجاه البحر, ويقول: هنا المدينة النائمة على كتف البحر، هنا بيت جدي وذكريات طفولة رائعة، مايوه وبحر وحبة بطاطا مشوية, وبيضة مسلوقة إذا باضت الدجاجة..
عند الشاطئ، هذا المساء لا رجل يمارس رياضة المشي ولا امرأة, كالعادة..
الجو غائم والحرارة منخفضة وعلامات مطر قادم في الجو، وحده بائع فول يسهر, ونديم يشربان المتة تحت غطاء بلاستيكي يمتد فوق العربة ويغطيهما, بينما رحلت العربات الأخرى, وترك بعضها في أماكنها لصباح قادم..
هي لا تبرح المكان كمحل تجاري مغلق، لكن المقاهي والمطاعم ما تزال منارة وتضم الكثير من الساهرين، رجل بطقم رمادي يركض نحو سيارته المركونة عند الرصيف أمام المقهى, قبل أن يبتل بالمطر..
بعد حديثه اليومي وتحياته وأشواقه يبثها للبحر المتلاطم الأمواج, يقف قبالته دقائق, ويجاوره مشياً سريعاً, وكما في كل ليلة منذ أيام عديدة متتالية, يصفر البحر برياحه العاتية, ويعلو بموجه, يرشق الأماكن المهجورة، قد يظنه المرء غاضباً إلا صديقنا يرى في موجاته الحب والشوق والاحتفال بقدومه..
تلمع في السماء أنوار تضيء الكون, تشق السماء, يصرخ البرق, ويبكي أو يضحك.
لحظة واحدة تفصل بين الجفاف والمطر الغزير، حباته كبيرة كرشقات مشاكس, تضرب الرصيف والمقاعد الفارغة, والرجل العجوز يختبئ بشاله الصوفي, الذي تحول وكالسحر إلى ممسحة امتصت الماء الهاطل بمحبة, فوق الرأس العنيد, المصمم أن يتابع رياضة المساء حتى آخر الطريق..
في (البوط الرياضي) الذي ينتعل بركة ماء تتجمع للتو، تغمر أصابع قدميه, فيسرع الخطى، ويدندن أغنية سمعها في السيرفيس وهو عائد من عمله بعد الظهر, وما تزال تتردد في ذاكرته, ويعلكها لسانه كداء لا دواء له (ع الموت معك ع الموت)
يقطع الشارع العريض تسابقه السيارات العابرة, تنافسه ولا تدعه يمر قبلها، يضحك في سره ويقول: اسرعوا قبل أن تبتل ملابسكم الفاخرة، أنا أحب المطر, ولا أخافه، رياضي عتيق أنا, وروحي أيضاً.
في الصباح، تستيقظ أسرة العجوز على صوت سعال حاد، وهو يردد لعن الله الرشح والكريب، عظامي تتداعى, لن أستطيع الذهاب إلى العمل اليوم.
سعاد سليمان