الوحدة – نجود سقور
يعد موسم قطاف الزيتون من أروع وأهم الفصول الزراعية التي تحتفل بها المجتمعات الريفية، حيث يشكل لحظة مهمة لا تقتصر على العمل الزراعي فقط أو مجرد موسم حصاد، بل تمتد لتكون مناسبة اجتماعية تبرز فيها طقوس وتقاليد عريقة، رغم أن هذا العام جاء موسم الزيتون في ظل تحديات غير مسبوقة، نتيجة للتغيرات المناخية القاسية والحرائق الموسمية والأزمات الاقتصادية التي طالت القطاع الزراعي، ما جعل الموسم يواجه صعوبات جمة تؤثر على الإنتاجية وجودة المحصول.
التحديات المناخية وتأثيراتها على الإنتاج:
يشهد موسم الزيتون لهذا العام ظروفاً مناخية قاسية، ففي بعض المناطق مثل الساحل السوري، تعرضت الأشجار لحرائق موسمية أودت بتدمير أجزاء كبيرة من الأشجار خاصة في مرحلة الإزهار، كما كان الجفاف أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في تراجع الإنتاج، حيث لم تهطل الأمطار بشكل كافٍ في الموسم المطري، مما أثر سلباً على جودة الثمار، ويقول إسماعيل أبو علي مزارع من ريف اللاذقية: لم تهطل الأمطار كما يجب، وكانت الرياح القوية خلال فترة الإزهار لها تأثير كبير على العقد، مشيراً إلى أن الجفاف وارتفاع درجات الحرارة قد تسببا في جفاف بعض الثمار قبل أن يتم قطافها.
تراجع الإنتاج وزيادة الأسعار:
نتيجة لهذه الظروف المناخية فقد تراجع إنتاج الزيتون مقارنة بالعام الماضي، هذا الانخفاض الكبير في الإنتاج ساهم بشكل مباشر في زيادة الأسعار، ما شكل عبئاً إضافياً على السكان في المناطق الريفية، كما أن ارتفاع تكلفة الإنتاج بما في ذلك الأسمدة والمبيدات والنقل والعصر، جعل من موسم الزيتون هذا العام أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
التكيف مع التحديات واحتفاظ الطقوس بالتقاليد:
رغم ما آلت إليه الأوضاع، لا يزال موسم الزيتون مصدراً للفرح في العديد من القرى، حيث يتمسك الأهالي بالطقوس القديمة التي تمنح هذه المناسبة طابعاً اجتماعياً مميزاً، ففي ريف اللاذقية تظل “فزعة القطاف” جزءاً من الطقوس الجماعية التي يتم فيها التعاون بين الأهل والجيران لجني الثمار، مع مكافأة كل مشارك بحصة من الزيت.
غسان معلا مزارع من قرية الميدان يوضح: فزعة القطاف ليست مجرد عمل جماعي، بل هي تآزر اجتماعي، حيث يتعاون الجميع لإنجاز المهمة ويكافأ كل من يشارك بحصة من الزيت، مضيفاً بأن هذه الطقوس الاجتماعية تظل حية في ذاكرة أهل الريف، وتضيف أم فايز: لا تكتمل فرحة موسم القطاف إلا عندما يتجمع الجميع لتناول الطعام تحت الأشجار، وتبادل القصص والأحاديث وأصوات الزيتون وهي تتساقط تعطي شعوراً خاصاً بالبهجة.
بدوره أشار الحاج خليل وهو من منطقة البسيط، إلى أن اجتماع العائلة تحت شجرة الزيتون لا يقتصر على أفراد الأسرة الصغيرة، بل يمتد إلى الأخوة والأخوات ومنهم من يأتي من خارج المحافظة، مشبهاً ذلك بـ “عرس للعائلة”، موضحاً أنه في نهاية القطاف يتم جمع الزيتون في الأكياس الخاصة بعد تنظيفه من الأوراق من خلال “غربال” خاص به، لينقل إلى المعصرة وليذهب كل التعب عند رؤية الزيت على حد قوله.
المشاركة في مراحل قطف الزيتون لا تقتصر على الكبار فقط، فالأطفال أيضاً ينتظرون موسم القطاف بشغف، حتى أنهم يذهبون لأبعد من ذلك بمرافقة ذويهم إلى المعاصر لمتابعة مراحل عملية العصر، حتى يروا منظر الزيت وهو يتدفق في آخر مرحلة “كشلال أخضر”، كما يصفه الطفل إبراهيم أحمد.
التأثير على الجودة:
رغم كل التحديات التي مر بها الموسم هذا العام، يرى بعض الخبراء أن الزيتون الناتج قد يمتاز بجودة أعلى، ففي حالة الجفاف يمكن أن يتركز الزيت في الثمار بشكل أكبر مما يؤدي إلى زيادة جودة الزيت، هذا ما يؤكده بعض المزارعين الذين يذكرون أن الزيت الناتج هذا العام أكثر كثافة وطعمه مميزاً مقارنة بالأعوام السابقة، ومع ذلك أضاف المزارعون أن هذا العام حملهم خيبة أمل نوعاً ما، لكون السنة سنة “معاومة”، كما بينوا أن تأخر وتدني الهطول المطري أثر على إنتاجية الزيتون، وارتفاع أسعار الأسمدة التي حدت بالمزارع إلى عدم الاهتمام بالشجرة بالشكل الأمثل، كما أن موجة الجفاف أثرت سلباً على عقد الزيتون، وعلى حد تقديرهم فإن الإنتاج لهذا العام في منطقة ريف اللاذقية الشمالي تفاوت بين 45% إلى 60%، وهو رقم أقل من متوسط إنتاج السنوات السابقة.
نهاية، موسم قطاف الزيتون هذا العام هو شهادة حية على قدرة المزارعين على التكيف مع التحديات المناخية والاقتصادية، رغم كل ما يواجهونه من صعوبات، وعلى الرغم من انخفاض الإنتاج وارتفاع الأسعار، إلا أن هذه التقاليد والطقوس تبقى حاضرة في الذاكرة الجمعية للمجتمعات الزراعية، وإن كانت التكنولوجيا قد ساهمت في تسهيل بعض جوانب العملية الزراعية، إلا أن الروابط الإنسانية والاجتماعية التي تجلبها هذه المناسبة تبقى العنصر الأكثر أهمية في الحفاظ على هوية هذه المجتمعات.