الوحدة – سها أحمد علي
كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة (Neurology Open Access) عن وجود علاقة بيولوجية قوية بين أمراض اللثة وتسوس الأسنان، وارتفاع خطر الإصابة بالسكتة الدماغية. وتُعد السكتة الدماغية إحدى أبرز أسباب الوفاة والعجز حول العالم.
وأوضحت الدراسة، التي قادتها د. ستيفانيا وود من جامعة ساوث كارولاينا، أن الرابط الخفي بين صحة الفم وسلامة الدماغ يتمثل في مرض تصلب الشرايين العصيدي، وهو مرض مزمن ينتج عن تراكم الدهون والخلايا الالتهابية على جدران الشرايين، مما يفقدها مرونتها تدريجياً ويضيق مجراها، فيحد من تدفق الدم إلى الأعضاء الحيوية. وبصيغة أبسط، فإن التهاب اللثة المزمن لا يقتصر على اللثة وحدها، بل يطلق سلسلة من التفاعلات في الجسم ترفع مستوى الالتهاب في الدم، وقد تنتهي بانسداد في شرايين الدماغ، إذ تنفصل الترسبات مع الوقت لتشكل جلطة دموية قد تسد أحد شرايين الدماغ، مما يؤدي إلى السكتة الدماغية.
واعتمد الباحثون في دراستهم على بيانات موثوقة من مشروع بحثي طويل الأمد بعنوان (خطر تصلب الشرايين العصيدي في المجتمعات)، وهو من أبرز الدراسات الوبائية في الولايات المتحدة التي ترصد تأثير العوامل الصحية على القلب والدماغ.
وشملت الدراسة 5986 مشاركاً خضعوا لفحوص فموية دقيقة بين عامي 1996 و1998، وتمّت متابعتهم سريرياً حتى عام 2019، أي لأكثر من عقدين من الزمن. ولتحقيق دقة المقارنة، قُسّم المشاركون إلى ثلاث فئات رئيسية: من يتمتعون بصحة فموية جيدة، ومن يعانون أمراض اللثة فقط، ومن يعانون أمراض اللثة وتسوس الأسنان معاً.
بعد ذلك، حلل الباحثون معدلات السكتات الدماغية والنوبات القلبية والوفيات القلبية الوعائية، مع ضبط النتائج وفقاً لعوامل مؤثرة مثل: العمر والجنس والعِرق ومستوى السكر والتدخين والكوليسترول لضمان أن يكون تأثير صحة الفم هو العامل الحاسم في النتائج.
وكشفت الدراسة عن أرقام مقلقة تؤكد أن الفم ليس معزولاً عن بقية الجسم، فقد بلغ خطر الإصابة بالسكتة الدماغية نحو 10% لدى الأشخاص الذين يعانون أمراض اللثة وتسوس الأسنان معاً، مقارنة بـ 6.9% عند من يعانون أمراض اللثة فقط، و4.1% لدى من يتمتعون بفم سليم.
ونتيجة لذلك، تبيّن أن اجتماع المرضين يرفع خطر السكتة الدماغية بنسبة 86%، ويزيد خطر الإصابة بأمراض القلب الكبرى بنسبة 36%.
أما عند التعمق في الأنواع الفرعية للسكتة الدماغية، فقد وُجد أن خطر السكتة الانسدادية ارتفع بنسبة 127%، في حين قفز خطر السكتة ذات المنشأ القلبي إلى 158%.
وتُظهر الدراسة بوضوح أن العناية المنتظمة بالأسنان ليست ترفاً تجميلياً، بل هي درع وقائي حقيقي ضد أمراض خطيرة تمس القلب والدماغ، فقد بيّن الباحثون أن المواظبة على زيارة طبيب الأسنان تقلّ احتمالية الإصابة بأمراض اللثة وتسوس الأسنان بنسبة تصل إلى 81%، مقارنة بمن يهملون المتابعة الدورية.
وتوضح النتائج أن إجراءات بسيطة كتنظيف الأسنان المنتظم وإزالة الجير وعلاج التسوس مبكراً، قد تسهم في خفض خطر الجلطات الدماغية والقلبية بدرجة تفوق التوقعات، مما يجعل عيادة الأسنان خط الدفاع الأول عن صحة الدماغ قبل أن تكون مكاناً لتحسين الابتسامة.
كما أظهرت البيانات أن عوامل الخطر المزمنة كالسمنة وارتفاع ضغط الدم والسكري كانت أكثر انتشاراً بين أصحاب المشكلات الفموية المزمنة، مما يؤكد أن صحة الفم ليست قضية معزولة، بل مؤشراً على العدالة الصحية والاجتماعية.
تدعو نتائج هذا البحث إلى إعادة النظر في مفهوم صحة الفم، وكونها جزءاً أساسياً من الوقاية من الأمراض العصبية والقلبية. ومن أبرز توصياتها: دمج فحص صحة الفم في الفحوصات الطبية الدورية، إضافة إلى تعزيز برامج التوعية المجتمعية بأن اللثة جزء فاعل من الجهاز المناعي المتكامل، وأي التهاب فيها يمكن أن ينعكس على الجسم كله.
كما شجّع الباحثون على التعاون بين أطباء الأسنان والأطباء العامين وأطباء الأعصاب لرصد المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية ومتابعتهم مبكراً، مع إدراج صحة الفم في سياسات الصحة العامة وبرامج الوقاية الوطنية، للحد من عبء أمراض القلب والدماغ.
تُلخص هذه الدراسة نتائجها في أن الوقاية من السكتة الدماغية تبدأ من الفم، فحين ننظف أسناننا كل صباح، فإننا لا نحافظ على مظهر جميل فحسب، بل قد نحمي أدمغتنا من الجلطات في الحقيقة، واختتمت الدكتورة وود كلامها بقولها: قد يبدأ الالتهاب في اللثة، ولكنه لا ينتهي عندها.. بل قد يجد طريقه إلى شرايين الدماغ.
إنها رسالة علمية تؤكد أن صحة الفم ليست نافذة على جمال الابتسامة فحسب، بل مؤشر مهم على الصحة العامة للجسم.