العــــدد 9283
الأحــــــــــد 3 شـــــــــباط 2019
تتراقص شمس (قريطو) كحورية ناعسة أضناها هجير النهار، ويرسم الشفق الأحمر على الأفق البحري في نهاية الرحلة لوحة تشكيلة مدهشة، لا تلبث أن تغلّف تلك الألوان بستارة العتمة وتختفي في غابة الليل .
لماذا تنزل الشمس في البحر كل غروب؟ هذا السؤال لم يفارقني طوال طفولتي، يظل معي في الطريق إلى المدرسة، وأنا أرعى الخراف الصغيرة على ضفة النهر، أو وأنا أرقب غروب الشمس وهي تشهق لهفتها لسفينة تعبر، كانت لدي قناعة أن الشمس تهبط في كل يوم على سلالم السماء من الشرق إلى الغرب لتغتسل آخر النهار في البحر من يومها المتعب، وأتخيل الأسماك تستقبلها فرحة وهي تتقافز حول قرصها المضيء، فتبدو الأسماك كنجوم تتلألأ.
للطفولة قراءات جميلة يختلط فيها الخيال مع الواقع، وعلى الرغم من كونها قراءات تبدو بسيطة، لكنها قراءات تمهّد الطريق لمعرفة أسرار كبيرة تتعلق بالكون والحياة.
لا يمكننا أن نمارس قراءة مشاهد الكون بنفس اللهفة عندما نكبر، لأن قراءات الطفولة لا يثقلها العقل، يصير لها أجنحة ملونة بريئة، كأجنحة الفراشات عندما تحوم على شفاه الزهر للوصول إلى رحيقها وربما لفهم عطرها وسحرها والتمتع بسحر ألوانها وبهائها.
في قريطو، تنسكب العتمة بعد كل غروب وتغلّف بيوتها الترابية الواطئة، وتدهشني شجرة التوت وهي تحتضن بأصابعها بيتنا وبوابة الدار، وزريبة الأغنام.
في كل مساء، كانت (بصابيص) الليل تتناثر على طرفي درب القرية المنحدر إلى النهر، تضيء، وتنطفئ كفنار في يوم عاصف .
في زماننا هذا لا تضيء (بصابيص) الليل على حواف الدروب، ربما فتكت بها الأدوية الزراعية فرسمت قبوراً لها على أطراف البيوت الإسمنتية التي راحت تتسع وتتسع كفيضان جارف يغمر الأرض الزراعية والمروج، حتى الطيور لم تعد تتقافز اليوم في حقول قريطو والمنطقة كلها ..
الطبيعة اليوم تبكي تلك الطيور التي كانت تأتيها في مواسم الهجرة، الآلة والأدوية والبنادق تفتك بكل شيء، والإسمنت يجتاح الأرض، والرصاص وأدوات الفتك الأخرى تتماوج كالكارثة .
ثمة أشياء جميلة وكثيرة فقدت وجودها اليوم في قريطو، وضاع وهجها السحري، قلت لأختي أنيسة في آخر لقاء:
هل تذكرين كيف كان يرتفع عواء (بنات آوى) من جهة النهر المزدحم بأشجار الدلب، والصفصاف، وبالقصب البري، فنقلب أحذيتنا، وننتظر توقف الثعالب عن العواء؟
(أي أذكر.. كنا نؤمن أن عواء الثعالب تخرسه الأحذية المقلوبة)، قالت:
غالبا ما تستمر الثعالب في عزف سيمفونية العواء، وكأنها في تحدّ لنا، كنت أخاف على الخراف الصغيرة في الزريبة، وأسأل أبي (هل ستأتي الثعالب لتهاجم خرافنا؟)
ويضحك: لا تخف، سنواجهها متى جاءت.
سليم عبود