الوحدة 25-3-2024
في الطريق إليها أسرجُ مهر الحلم، و أحلِّقُ سربَ أمنيات في فضاءات بعيدة، أذكرها بوضوح السنديان العتيق مرتديةً الرضا ثوباً، و الابتسامةَ الحبيبة مفتاحاً إلى القلوب التي أدمنتْ حبها و رأت فيها بركة الحياة التي لا تنضب حتّى لو غابت
محطات كثيرة متسارعة تمرُّ في ذاكرتي و أسأل نفسي: كيف و متى حَصَلتْ؟
أتذكرُ أن طفلك الذي كنت تغمرينه بكلِّ ما في الكون من دفء و حنان قد زرع ستين عاماً على أرصفة الخيبة، والحلم و أن شعره الليلي أكمل ثلجه.. نعم يا أمّي لقد بلغت من العمر عتياً. و أكابرُ أن الروح لا تزال بكامل قوتها إلّا قليلا، يحاولُ الجسدُ مراراً أن يتمرّد على ستين عاماً فعل بها الزمن فعلته لكنه كان يرجع بعد كل محاولة إلى واقع الحال و لا يكاد يرتاح هذا الجسد العجوز حتى يعود لمحاولاته من جديد.
أعترف أنّي هرمت يا أمي لكنَّ عصافير الروح المشاغبة تأبى إلّا أن تحلق من جديد.
واليوم كما في غالب الأيام أحاول أن أخبرك عن أحوالنا و عن أشياءٍ أخرى فألاحظ أن الأخبار نفسها تتكرر مع إضافاتٍ قليلة لا تغير من جوهر الأشياء شيئاً.
وعدتك في حلم سابق بأنني لن أخفي عنك شيئاً بعد أن عاتبتني أنني أخفيت عنك نبأ وفاة أخي بعد رحيلك بعام.
وحين سألتك من أخبرك يا أمي؟؟
ابتسمتِ الابتسامة الرضيَّة ذاتها و أنت تقولين: إلى أين سيذهب من يغيبُ عن دنياكم يا بني؟
و عندما سألتها عن أحواله اغرورقت عيناها بالدموع و تركتني و توارت في الضباب.
استيقظت من حلمي لأجد أن دمعتها لا تزال ساخنة على خدّي و لم يمض على سقوطها إلا مقدار حلم لكنَّ الصباح و البراري و الأماني، وما تبقى من روح كانت معطرة برائحة أمي
حاولت أن أخلد إلى نومي من جديد حالي حال ثعلب يماكر طريدته فينام بعين و يفتح العين الأخرى منتظراً الفرصة السانحة.
و كأن أمي كانت تراقبني من مكانها البعيد القريب فلم يتأخر النوم و لم يتأخر طيف أمي سألتها عن أبي و إخوتي فتجاهلت السؤال.
غيّرت السؤال قلتُ أمّي هل تستطيعين و أنتِ في السماء البعيدة أن تتقدمي بطلب رسمي إلى السلطات السماوية ((لم شمل) كما يجري على يابستنا البائسة؟؟
أغرورقت عيناها بالدموع من جديد قائلة: لا يا بني لم يحن الوقت بعد لكني أوصيك أن تعتني بمن تبقى من إخوتك فهم بحاجة إلى محبتك و مساندتك و إن كان هذا الدور قد أتعبك أفعله هذه المرة من أجلي و أعتقد أنني أستطيع أن أعتمد عليك أليس كذلك؟؟
– بلى تستطيعين ذلك لكن أخبريني كيف هي الحال عندكم؟؟
– ستعرف ذات يومٍ قادمٍ بلا ريب كل ما تريد.
مازحتها لمَ هذا التكتم يا أمي هل هناك من يراقب كلامك و تصريحاتك و هل تتكلمين على الهواء في بثٍ حيٍ أم أنه حوار مسجل تمّ السماح به بعد أخذ موافقة الرقابة السماوية المختصة، وهل هناك أجهزة استخبارات في السماء، كما هو الحال على هذه الأرض السعيدة؟
ضحكت و قالت: نحن هنا أرواح منزّهة عن الانفعالات و الغرائز و رغبات الجسد.
– فهمتُ يا أمي يعني لا حكومات في السماء.
– هو ذلك يا بني لا حكومات في السماء و لا حكومات في الأرض. و ما تتدعي به الدول العظمى هو مجرد هراء، فحكوماتها ليست أكثر من كومبارس أو دمى تحركها قوى تكاد تكون خفية تدير هذا الكوكب المسكين.
– و ماذا عن العالم الثالث؟؟
– بأسى قالت: إن العالم الثالث لا ينطبق عليه قانون يا بني.
و لما حاولتُ متابعة أسئلتي شاهدتها تبتعد شيئاً فشيئاً وسط الضباب و الثلج تذكرت شيبتي و هتفت بصوت مبحوح: سامحيني يا أمي لم أقل لك في عيدك كل عام وانت بخير نعم سامحيني يا أمي و عندها استيقظت على دمعة لا تزال ساخنة فوق خدي.
أعتقد أنها سقطت من عين أمي قبل أن تمضي في رحلة لا أعرف مدتها لكن من المؤكد أنها ستعود، فمفاتيح روحي في كفها و لازال لدي فيضٌ من الأسئلة تنتظر إجاباتك يا أمي.
محمود عزيز إسماعيل