الوحدة :13_4_2025
في زوايا ذاكرة الجدّات، حيث رائحة القمح الطازج تختلط بضحكات النساء، تدور “الرحى” بحركة دائريّة لا تتوقف، كأنها تعيد عقارب الزمن إلى الوراء. هذه الأداة الحجرية العتيقة لم تكن مجرد وسيلة لطحن الحبوب، بل كانت مسرحًا للحكايات، وشاهدًا على مجتمعٍ بكامل تفاصيله الإنسانية
لا يزال الماضي القريب حيًّا في ذاكرتنا، يلامس خيال الطفولة ويوقظ فينا حنينًا دافئًا. فما زال صوت الرحى الصاخب يصدح في الصدور، كأنه ترنيمة من زمنٍ جميل، يعيد إلى الأذهان تفاصيل عميقة من حياة كانت مليئة بالتعاون والمحبة والبساطة.
الرحى وجلسات النساء… كرنفال المحبة والعمل
السيدة أميرة عبود، في السبعين من عمرها، تحدثت إلينا بشغف عن تلك الأيام، وعن أجواء النسوة وجلساتهن التي لم تكن تخلُ من العمل والإنتاج، بل كانت تمثل كرنفالًا حقيقيًا، يجمع بين الجدّ والمرح، ويعكس العلاقة الفطرية التي نشأت معنا منذ الصغر ونمت في دواخلنا. حيث تقول: “بعد انتهاء موسم الحصاد، كنا نجتمع ونتعاون في تحضير مؤونة الشتاء، فنقوم بتجهيز البرغل والحبوب المختلفة من خلال جرشها يدويًا باستخدام الرحى. لم تكن تلك الجلسات مجرد عمل، بل كانت مناسبة للقاء، نتبادل فيها الأحاديث والضحكات، وننشغل بعملٍ يجمع بين الفائدة والسرور.”
الرحى أو الجاروشة… أداة تراثية
الرحى، أو ما كنا نسميها بـ”الجاروشة”، هي أداة حجرية عريقة، ورثناها عن أجدادنا وآبائنا، تُستخدم لجرش وطحن القمح والحبوب الأخرى. لم يكن يخلو منها بيتٌ من بيوت بلداتنا القديمة.
تتكوّن الرحى من طبقتين دائريتين مصنوعتين من حجر البازلت الأسود، المعروف باسم “الصوّان”، والذي يمتاز بخشونة ملمسه. الطبقة السفلية ثابتة وتشكّل القاعدة، أما العليا فهي متحرّكة، وتحتوي في مركزها على فتحة صغيرة تُعرف بـ”الحفرة”، يرتفع منها محور معدني أو خشبي يتصل بالطبقة السفلى ليحافظ على ثبات الطبقتين أثناء الدوران.
آلية العمل… وأناشيد الذاكرة
يُوضع القمح النقيّ الخالي من الشوائب داخل الفتحة، ثم يُحرَّك الحجر العلوي بواسطة مقبض خشبي مثبت في طرفه، وتُدار الرحى بحركات دائرية متناغمة، تُتناوب فيها الأيدي. وغالبًا ما كانت هذه الحركات تترافق مع إنشاد مقاطع تراثية وأناشيد موروثة، فيما يدور الحديث بين الجيران والقريبات في جوٍّ من الألفة والمحبة.
وبينما تدور الرحى، يتهاوى القمح المجروش بهدوء على بساط نظيف مفروش تحته خصيصًا لهذا الغرض، ليخرج برغلاً ناعمًا جاهزًا للتخزين.
الاكتفاء الذاتي من مزروعاتنا
تتابع السيدة أميرة عبود حديثها قائلة:
“لم نكن بحاجة لشراء أي نوع من الحبوب أو التوابل، مثل الكزبرة أو الكمون أو السمسم، فكل شيء كنا ننتجه من أرضنا، وإن لم يكن متوفرًا في بيوتنا، كنا نقوم بتبادله مع جاراتنا وأقاربنا، وهكذا كنّا نؤمّن مؤونتنا السنوية بالكامل من خيراتنا ومزروعاتنا المحلية.”
تطوّر الجاروشة عبر الزمن
لم تبقَ الجاروشة على حالها، بل مرت بمراحل عديدة من التطور. ففي بداياتها، كانت تتكوّن من حجرين أملسين؛ أحدهما مقعر وثابت، والآخر أسطواني متحرك، يُدار يدويًا لفرك الحبوب وتحويلها إلى دقيق.
لاحقًا، جرى تعديل شكل الحجر الأعلى، فتمّ ثقبُه بثقبين: أحدهما لوضع الحبوب، والثاني لتثبيت بلعة خشبية تُدار باليد، وسمي حينها “الجاروش” ثم تطوّر الشكل تدريجيا، فأصبح الحجر أكبر حجمًا ويُدار بواسطة الحيوانات (الدابة)، إلى أن ظهرت الطواحين المائية، والتي مثلت نقلة نوعية في الجرش والطحن، قبل أن تُستحدث الطواحين الحديثة التي تعمل بالديزل أو الكهرباء، وتدخل البيوت والمناطق كافة.
تختم السيدة عبود حديثها بالقول:
“كانت الرحى جزءاً من حياتنا اليومية، ورغم بساطتها، إلا أنها كانت تحمِل معها روح العائلة، وجمال العمل اليدوي، وعبق الماضي الذي ما زال يسكن فينا.
معينة أحمد جرعة