الوحدة 2-3-2024
في رواية “حب تحت الأنقاض” لا يوجد كلام، ثمة كاميرا، وعلى القارئ ملاحقة الصور. صور الوقائع، الأبطال، الأحداث، العواطف، المشاعر، الأفراح، الأحزان، لدرجة يشعر القارئ وكأن بين يديه ألبوم صور، وليس كتاباّ!! وهذا ما جعل السيدة وصال يونس “المشرفة على مشروع فتح كتاب” تكتب على صفحة “فتح كتاب”: هي الرواية الشعرية، أم الشعر المروي، أم أن الكاتب إبراهيم الزيدي يتنزّه على حواف دهشتنا؟!
جلسة ” بين دفتي كتاب” التي تشرف عليها الأستاذة رحاب جعبري، كانت رواية “حب تحت الأنقاض” محور جلسة هذا الشهر، بحضور الكاتب إبراهيم الزيدي، ومجموعة من المهتمين بالأدب. تحدث الكاتب عن الأدب بشكل عام، والظروف التي كتبت فيها الرواية، ومن ثم كانت مداخلات الحضور. الأديبة ندا الدانا قالت:
رواية حب تحت الأنقاض للكاتب إبراهيم الزيدي رواية حداثية، تعتمد على التكثيف والتركيز والاختزال للسرد والحوارات، لغة شعرية جميلة وعميقة، تأسر القارئ، وصور فنية مدهشة، ويضمن الرواية بعض الاقتباسات للمفكرين والأدباء بشكل عضوي، ومناسب لإيصال أفكاره، السارد هو بطل الرواية يتحدث بلغة المتكلم، وهو لا يعلم كل شيء عن أبطاله، بل نشعر بالغموض في بعض الأحداث، وهذا الغموض يحرك خيال القارئ وتفكيره، وتوقعاته، وتأويلاته، وتساؤلاته، رواية عن الحب والحرب، عن التغيرات في البيئة الاجتماعية، عن ذكريات الطفولة في تل أبيض، وعن الحياة في الرقة، والنزوح إلى لبنان هرباً من الحرب وتداعياتها، تنتهي الرواية بشكل تراجيدي بموت البطلة بمرض خبيث، كي يكتب البطل حكايته معها.
أما الدكتور هاشم دويدري فقد قال: الحب والحياة دافع رئيس لدى الكاتب، رغم المعاناة التي وقفت في وجهه حائلاً دون تحقيق ذلك، والتي أسقطت أمانيه. القصة تروي معاناة شخصية ومجتمعية، في ظروف حياة استثنائية، استطاع الكاتب المزاوجة في تصوير البيئة بين ماض فيه بساطة وعفوية، وحاضر فيه هجرة ومتاعب. ورصد تقلبات الأمزجة لدى بعض الناس وفق الظروف المحيطة بهم. لدى الكاتب فائض من حكمة، جميل ولافت. من ذلك قوله مثلاً: “الأحلام المؤجلة تميت القلب”، “يقع المجتمع في حب القوة، ويسقط قوة الحب”، “سأترك نافذة أحلامي مفتوحة، وأتوسد الأمل بعودتك”.
أما السيدة لينا حلاج فقد أتت مداخلتها مبنية على معرفة الكاتب، وقراءة الرواية، حيث قالت: كثيراً ما أسمع أن الأحلام المؤجلة تميت القلب !! هل هذا صحيح؟ هل هذا ما حدث معنا ويحدث؟
قلوبنا أصبحت ميتة، أرواحنا منطفئة، عيوننا ذابلة، أجسادنا مهترئة.
تأجلت الأشواق، تأجلت المواعيد، تأجلت الأحلام.
لم يبق في ذاكرتنا سوى ذكريات منسية.
بذريعة الأمل كنا نعيش، نحب، نحلم، نفرح، نكتب، ونتألم أيضاً، صدمنا الواقع، وتعرت أرواحنا.
يقول الكاتب الزيدي مع بداية حكايته:
“مليئاً، فارغاً، أجيء إلى موعدي مع الكتابة..
تزدحم طاولتي بأوراق
تنتظرها حبراً، وتنتظرني ألماً، ينتصب بينها فنجان قهوتي مراً بغيابها، ومنفضة لأعقاب أيام أطفأتني خيبة.. بعد أخرى، كل خساراتي السابقة كانت بالنقاط، إلا حبها، فقد هزمني بالضربة القاضية!! وجردني من لقب كان اسمه “هي”!! فغابت عن الحضور، وحضرت في الغياب!
شاعر لم يستطع الخروج من جلده فكانت لغته الشعرية حاضرة في روايته، فكتب بلغة شعرية، سلسة، بسيطة.. رواية تختصر حكاية عمر، تاريخ أب، دم أخوة، اعتقال أصدقاء، لترفرف الفجائع بأجنحتها السوداء فوق ذلك البياض الفسيح.
لماذا علينا أن نخضع بشكل دائم إلى شيء يسمى امتحان النسيان؟ وأن نهرب من بيوت كانت وطناً لأرواح كثيرة؟
“وبقيت تل أبيض هناك، في منتصف الطريق، بين طفولتي وامتحان النسيان.”
صحيح أن هنالك رغبة موجودة دواخلنا، تتأخر الحقيقة، لتطيل عمر هذه الرغبة، تلك الرغبة التي تنطلق منها الحقائق.
صباح آخر للذكرى.. صباح آخر للكتابة..
هل سنبقى مجرد عابري سبيل في هذه الحياة البائسة؟
النسيان مستحيل، نحن نتناسى.
من منا قادر على استئناف الماضي بتلك البساطة؟ كيف يمكننا أن نتعلم كيف ننسى وكيف نمحو؟
ليعود سؤال جديد إلى الأعلى
ما الذي علينا أن ننساه أساساً؟
يقول سيجموند فرويد: غالباً ما تكون الأحلام في غاية العمق عندما تكون في غاية الجنون. فالأحلام هي سلم المخيلة الإنسانية ليبقى سلم الحلم نسنده على جدار الغياب. كمقامر راهن على كل ما لديه.
“لقد تركني اسمها في أول السطر، وغادر صفحة حياتي.”
لتنتهي رحلة حب تحت الأنقاض على سرير بارد في أحد المشافي الفرنسية، وقلب معذب على أريكة باردة على قارعة النسيان.
– السيدة جدوى عبود اعتبرت الرواية “نوفيلاً:
بالحديث عنه طفلاً يستذكر البطل ماضيه:
مازلت أذكر ذلك الطالب الذي عشق معلمته فرسمها.
من هنا، من الطفولة تبدو حساسية الصغير؛ فيرى الجمال والحنوَّ والعطاء في المعلمة، البديل الأول، والمكمّل لاحتضان الأم..
– يسترسل في التذكُّر، يوقظ شيئاً فشيئاً الأحداث والمواقف وهو لا يريد لها أن تختفيَ في النسيان، بل على العكس، تلحُّ عليه باستمرارٍ فيحملها إلى القلم..
– يتعب من قلة فرص العمل وظروف الحياة الصعبة، يتعب من حمل الأحزان ومن الفساد، والاستثناء حين يجتاح مفاصل الأيام فيبدأ في إسقاط أحماله النفسية في الكتابة ليتخفف من عبئها.
– مع الكتابة تنجلي ضبابية عن خسارات متتالية:
– خسارته لمسقط رأسه، المكان الذي ولد فيه “تل أبيض” المدينة الأجمل في عيني البطل يتحدث عن الأرمن أرباب المهارة والصناعة والعمل، هم الأقدر على تحويل الفراغ إلى عمل وجمال معاً، بذلك يخلقون عوالم تريحهم، مفصلة على إبداعهم وحرفيتهم، وهم الأقدر على صناعة الفن الأرقى في البيوت والشوارع والمقاهي، الحدائق والخمارات، وفي القلوب أيضاً.
– خسارته للرقة، مدينته الصغيرة الجميلة التي تنمو ببطء، قد يتغير كل ما فيها، إلا الفرات الخالد غزيراً نابضاًبالحياة.
الرقة: المدينة التي تقضي وقتها بالتلصص على العابرين، تنبع حياة أبنائها الاجتماعية من صلات القربى التي نمت بالتدريج لتصبح المدينة الأحبَّ لقلب الراوي وعقله يتحدث عن شوارعها الضيقة.
ريم ديب