الوحدة: 11-2-2024
زمان الأغاني وجلبة الطفل الشقيّ
حين كنت أرمي فوضاي على نوافذ النور، وآمرُ الشمس أن تتريّث، وآمرُ سكّان شجرة اللوز أن يشدوا بعدُ قليلاً، ثم أزقزق معهم بشفةٍ مزمومة ونَفَسٍ لَعوب.
أتمطّى، وفي سرّي أستمهل الرفقة:
سآتي بعد قليل.
أصلحْ، هيئتك أيها الرمش الكسول.
بنت الجيران استكملتْ فتنتها، وتنغيمةُ بابهم التي تشبه المواء تستنفر حواسي كأنها تعلن افتتاح العرض، ازدان درب المدرسة بالفراشات، وبرائحة الخبز المقدّس، بخطوات الساعين والحالمين والكادحين، وصوت فتح غلق دكان أبي محمود يعيد التذكير: أصبحنا وأصبح الملك لله، استفتاحية مباركة من ابن حلال.
الشلّة ينتظرونني والأسمر المشاكس بلثغته يشتمُ كسلي ثم يستسلم: سننتظره.
والله زمان يا صباحي
تحضر أشيائي، حقيبتي، تفاحتي، جوربي، حذائي..
اصطدم بشقيقتي خارجة مستعجلة بقبعتها الكاكي وشعرها المربوط وحقيبتها المدرسية المبعجرة:
– هبلة.
– مجنون.
لطالما حنقتُ لأنهم جعلوا دوام البنات قبل دوام الصبيان بنصف ساعة. هل يحرّضون فضولنا؟ أم نشاطنا؟ أم تباشير ذكورتنا؟
أخي الأصغر يجوس بجسده الصغير ورموشه السوداء المسترسلة كأنه يبحث عن شيء. من التقاليد العريقة أن أصدر له أمراً ما، أليس ذلك من مغانم أسبقيّة القدوم إلى هذه الدنيا؟
– أحضرْ لي طاقيّتي الصوفية.
– احضرها بنفسك.
– أخ عاق.
والله زمان يا صباحي
لا بدّ للصباح من فيروز تغنّي من مكان ما، ربّما من جهة جارتنا اللطيفة المبتهجة دائماً أم غسّان ذات الوجه الطافح بالبِشْر.
ويأتيني الأمر الحاسم: غسّل وجهك يا قمر
هل يغسل القمر وجهه؟
هل يشرب كوب الحليب؟ ويأكل جبنة مالحة ولبنة وزيتوناً؟ هل يحمل حقيبة؟ هل تتفقّد أمُّه كتبه ودفاتره و برنامج دروسه وهي تردّد: جغرافية، عربي، علوم، رياضيات، موسيقى، هل يفهم القمر لغة الموسيقى؟ هل صوت أمّه حاسم وعذب؟ هل لكلّ قمرٍ أم؟
والله زمان يا صباحي…
درجات شرفتنا القليلة مكسوّة بثلج رقيق يمكن أن أتبين طبعات حذاء شقيقتي. أفكّر: ستطبع خطواتي مثلَها.
قبلة، وضمّة خفيفة، ومرآة روحي تلقي النظرة التفحّصية، وتصلحُ خصلة شعري، تمسح وجهي، تقرص خدّي على افتراض أن لي غمازة، وتربيتةٌ أخيرة، وتمتاتٌ ونصائح ربما كان بينها: دير بالك على حالك.
العصابةُ يفركون أكفّهم وينفخون بخاراً ساحراً على قبضاتهم الباردة، يحتجّون: لقد تجمّدنا.
يعقّب الأسمر الشقيّ: كلُّ يوم على هذه الحالة، لقد أخّرتنا، لن ننتظرك بعد اليوم.
وتأخّرتُ، وتأخّرتُ وتأخّرت، وانتظروا وانتظروا وانتظروا…
انتظَروا بمقدار الحلم
انتظروا بمقدار إيابات السنونو.
بمقدار هدير سيارة جارنا المتقطع.
بمقدار براءة ضحكات بنات الحارة.
بمقدار أصوات دِيَكةٍ فتية تتعلّم الصياح.
بمقدار ثلجات المواسم، ودخان المدافئ، وذوبان الطبعات، وذوبان الأيام…
أمسحُ نافذة الصمت. اتمطّى بلا همّة.
على الجدار أمامي صورٌ غابرة تمضي متعاقبة كما تترات فيلم بالأسود والأبيض، تارةً تتوهّح، وتارة…
لا أحد يحتجّ..
لا أحد في الانتظار..
وصوتٌ من مكان ما يبعث دفئاً وحنيناً وغصّة:
“تلج تلج عم بتشتي الدنيا تلج”
ومن خلال نظّارة القراءة للقريب أكتب جملة معلّقة على ورقة معلّقة على أغصان شجرة اللوز:
ولّى زمان يا صباحي.
عاطف إبراهيم صقر