العدد: 9366
الأحد-16-6-2019
بين تعدد الوجوه فينا واختلافها تكون الحياة بحد ذاتها دراما، قصيرة الحكاية، وزمنها بالكاد يقصّ بعض الملامح، لكن شغف الروح يطول مع أبعادها العميقة عمق الوجود، تصير للأحلام فيها مساحات قد ترقى وقد لا ترقى لأن تغمض العين لحظة لها، لكن الحاجة الدائمة لنرى أنفسنا على مرآتنا ومرآة الآخرين كان ومازال هو هذا الشغف.. عبر صباحات شتى تتقاطع بها الصور وتختلف وربما يسبق حلم على مسمع، لنبقى نحن الحكاية في قصص الحياة، تنتقل بين فضاءات العالم، ترتدي أثواباً شتى تتداخل ألوانها لتلوّن الوجوه معها، فتتمايل الدروب وتختلف بوشم أرضها في كل المسافات إنسان من هذا التاريخ، يحمل مشاعره وأحاسيسه وأحلامه، وأحزانه ورؤاه الحاضرة الغائبة، ينثرها على نافذة البوح، فترتسم المعالم وتتوضح الصورة..
من أهمية الدراما وحاجتها نشأت ثقافة متغيرة، متبدّلة، لكنها في أساسها تحمل بصمة وهوية لشعب، لأمةٍ، لعالم، وصارت تقاس الأمم بمدى رقيّ هذه الثقافة وفنونها واقترابها من الحس الإنساني أو بعدها عنه، يحركها دائماً العقل والفكر مصراً أن يعبر عن مكنوناته ملموساً أو مكتوباً أو مرئياً، فالدراما في أصلها وسيلة من الوسائل الهامة للتعبير عن الذات، تعتبر نوعاً من التعبير الأدبي تؤدى فيها أنواع من التمثيل يتمازج بين الضحك والجدّ والواقع والخوف والحزن، أي ما يُعنى بكل مكنونات التفاعل الإنساني، قد يرافقها أيضاً نغم موسيقي يتماهى في بعديه الزماني والمكاني في تلاحم عضوي يخلق مفاهيم متعددة للدراما تتجلى على مسرح أو في التلفزيون أو السينما أو الإذاعة، يحوّل صانعه الأحداث وشخوصها إلى صور تتحرك وتحرك المكتوب في إطار من الإخراج والتأويل والديكور والملابس لتنطق بحدثها، وتبوح لتتحول هذه الرؤى إلى مكاشفة…
فالدراما جدل وصراع بين العواطف والتفاعلات النفسية والجسدية، تنبع من الذات، وتتجلى بأشكال مختلفة من العلاقات بين الفرد ومجتمعه المحيط بأبعاده القريبة والبعيدة، وتأخذ المكاشفة فيه أشكالاً من التعبير حسية جسدية، صامتة أو منطوقة في جعبة من قوة حكائية، يُعّبر عنها فيما يسمى بالقوة الدرامية التي تتعدد وتتشكل في إطارات مُصنعة حسب الشكل والمضمون إلى أنواع عديدة هي:
* (الملهاة) والتي تعكس الحدث بشكل فكاهي هزلي.
* (ميلو دراما) وهي نوع يهدف إلى تصوير العواطف بشكل مبالغ فيه فهي تركز على الأحاسيس الجياشة.
* (المأساة أو الدراما المأساوية) وهي نقيض الملهاة ويتم فيها تسليط الضوء على معاناة البشر والمشكلات الإنسانية المتعددة.
* (التراجيديا) وهي محاكاة لفعل حقيقي تقوم على افتعال وتشكيل لغة غير اعتيادية للتعبير عن الآلام والانفعالات النفسية كالخوف والقلق بطابع شاعري حزين يؤطره فعل فريد، وهناك (الو مورا جيديا) وهي خليط بين التراجيديا والكوميديا.
* (الدراما الخيالية) ويتم فيها تجسيد الخيال من خلال القوى الخارقة والقدرات الفريدة يكون إبداع الخيال فيها الأقوى، هذه الأشكال الدرامية تتداخل مع بعضها البعض بإطارات تختلف وتخلف أنواعاً أخرى لكن الأساس والأهم دائماً فيها هو البناء الدرامي والذي تتكون عناصره من الفكرة الرئيسية أو الحدث الدراسي ومن ثم الحبكة أو الصراع يليها الحوار الذي هو الأداة الرئيسية لتقديم العمل الدرامي ويرافق هذه الأنواع بعض من عناصر التشويق والإثارة تختلف في مدلولاتها النفسية كالموسيقى والمؤثرات الصوتية الأخرى تخدم، إحدى عناصر النص الدرامي إن لم يكن كله، وفي الموضوع العام للعمل يكون النص الدرامي هو الأهم بما يحمله من فكرة عامة للعمل أو من خلال البناء الدرامي محمل على حدثٍ وشخوص يلفّهم جميعاً إطار من زمانٍ ومكان تدور في فلكيهما أحداث الصراع والحوار وتطور الشخصيات مع الحدث في أبعادها وتفاعلاتها المختلفة.
وتنبع أهمية الدراما من طبيعة الارتباط الجدلي بينها وبين الآداب والفنون من جهة والحياة وقوانينها من جهة أخرى حيث تتحكم ضمن هذه التفاعلات قوانين موضوعية تسيطر على وجودها وتقدمها يسهم التطور الزمني والحضاري دوراً هاماً فكل مرحلة إنسانية حضارية تفرض نتاجاً فنيّاً وأدبياً يماشي المساحات الزمنية والمكانية لتكشف عن هذا الارتباط العميق ووحدتها العضوية والحيوية بين طرفي الدراما والحياة وتبادلهما والتأثير والتأثر وفق سياق قوانينها وإن كانت الدراما هي لفظة إنكليزية كما يقال عنها التعبير الدرامي إلا أن هذه الكلمة مأخوذة من اللغة الإغريقية القديمة وتعني (العمل والصراع والتوتر) وتعني أيضاً (التناقض) حيث يجتمع في هذه الكلمة وما تضمه من معانٍ هي خليط من التمثيل يطرح كل مكنونات التفاعل الإنساني من ضحك وجدّ وواقعٍ وخوف وحزن وخيال وإن كانت الدراما تعريفاً أوروبياً إلاّ أن الأرض العربية ومن بينها سورية قد حملت آثارها هذا النوع من الدراما والتي كانت تمتلئ بها المدن السورية ويعدّ مسرح أفاميا أحد أكبر هذه المسارح وأوسعها وهناك مسرح بصرى ومسرح تدمر ومسرح جبلة ومسرح سيروس غرب مدينة حلب إضافة إلى العديد من المنابر التي كانت للدراما قوة حضور فيها..
وفي التاريخ القريب كان للدراما العربية حضور على يد (أحمد أبو خليل القباني) الذي أوجد المسرح وهو يُعدّ رائد المسرح العربي وإن كانت بداياته على شكل هواة إلا أنه تطور وبسرعة إلى درجة الاحتراف بعد فترة استمرت أكثر من نصف قرن، لتتدخل الدراما الحياتية في هذا الجانب وليصل إلى شكله المؤسسي الفاعل ضمن المؤسسات الثقافية والاجتماعية وخاصة عند دخول الإذاعة ومن ثم التلفزيون والسينما إلى هذا المجال وقد كانت تجربة الدراما التلفزيونية السورية رائدة في هذا وتركت بصمة واضحة بواقعيتها ضمن الأعمال التاريخية أو الواقعية أو التراجيدية ابتداءً من المخرج علاء الدين كوكش وغسان جبيري في أعمالهم (حارة القصر- و أسعد الوراق- أبو كامل- حكايا الليل- انتقام الزباء- تغريبة بني هلال…)
وقد كانت الدراما التلفزيونية السورية محل احترام ومتابعة على مدى السنوات الماضية إلى يومنا هذا وغزت القنوات العربية وتفوقت على مثيلاتها ليصير صاحب النص والمخرج والممثلون نجوماً ذا شعبية جماهيرية عالية، إلاّ أنه في السنوات الماضية وبسبب ما شهدته سورية من حرب تأثرت كل تفاصيل الحياة بها كان للدراما تأثر واضح أيضاً وتراجعت بأدائها النصي والإخراجي رغم أنها بقيت تحمل الطابع الاجتماعي الذي يعكس الحالة السورية والعربية وصار هناك اختلاف واضح بين الكمّ والكيف فيما تطرحه من أعمال إلا أننا نستطيع أن نقول إن هذا العامُ يبشّر بعودة الدراما التلفزيونية السورية إلى ألقها من خلال ما قُدم خلال شهر رمضان المبارك من حيث عدد الأعمال ونوعية النصوص التي تضمنت حكايا سورية بأسلوب حواري مميز وإخراج فني جميل، نأمل أن يرافقه جديد في المسرح وأيضاً في السينما وخاصة أن العقل السوريّ هو عقل خلاّق دائماً، ويستطيع أن يتميز في أحلك الظروف وخاصة أن الدراما الحقيقية كانت على الأرض السورية هذه الأعوام بما شهدته من أحداث وفوارق حَدثية ومكانية ستبقى في ذاكرة السوريين طويلاً وطويلاً جداً وسيشهد التاريخ دوماً بها..
سلمى حلوم