العدد: 9365
13-6-2019
في رحلةٍ طويلةٍ مع الذّات، ولساعاتٍ امتدَّت حتّى مفاصل الفجر، برفقة صوتٍ خفيٍّ تكسوه بقايا ألوانٍ وكلماتٍ عتيقٍ بعمر الرّمال، فيهبط مع شلّال الذاكرة ويرسم المشاهدات، لتجيء تلك المشاهدات على هيئة حوارٍ.
المشهد الأوّل:
يمكنك أنْ تقطف الأزهار، ولا يمكنك إعادتها، ولو عاد معك ألف ربيعٍ وربيع.
المشهد الثاني:
في لحظةٍ غير مسبوقة، تشابك المدُّ والجَذرُ، وارتفعت الأصوات حتّى عجزت الأجنحة عن الطّيران، فاستعانت بالرياح.
يا للرياح الّتي تغيُّر كُلّ شيء؟! وأنا أيضاً فالرّياح في أنفاسي، وهي رياح التّغيير.
المشهد الثالث:
كانت تهمِسُ للأشجار، فتضحك أغصانها المجدّلة بأوراقها كجدائلها هي.
في هذه الأيّام، لم يعد للأشجار من معنىً، ربّما أدارت ظهرها، وراحت تضحك لغيرها.
هل لأنّها خبّأت سنواتٍ من العمر، وهل العمر بلا صندوق؟ إنّ الأشجارَ كالأمنياتِ تيْبس ولا تختبئ.
المشهد الّرابع:
ولأنَّ البحرَ بلا ظلال، رحتُ أتظلّلُ بموجةٍ لكنّ الموجة على عجل.
ما أسرع الأمواج، ولكنْ إلى أين؟
إلى حيث تتلاشى، (الأمواج دوماً تستعجل موتها مثل عاشقٍ ينادي: أموتُ حُبَّاً ولو كان على طبقٍ من نارٍ).
المشهد الأخير:
لحظة رحيله أمام الجميع، تخيّلَ مشهد العودة، ولا أحد في استقباله، فبعضهم يكون قد واجه الموت، وبعضهم الآخر غلب عليه النَّسيان، وآخرون تعمّدوا الابتعاد، كونه اغترب عنهم، وهم لا يُحبُّون الغربة ولا الاغتراب، فجدران منازلهم أكثر اتّساعاً من رحلة طائرة، أو سِكّةٍ لا يتوقّف قطارها إلّا في المحطّة الأخيرة.
مرّت لحظة الوداع وكأنّها ساعات بطيئة كمياهٍ في أو حالٍ شتويّة.
سنواتٌ من الاغتراب مرّت، وفي كلِّ يومٍ كان يتجدّد ومشهد الوداع في مخيّلته، وقد اختفى منه أحد المودّعين، إلى أن صار المشهد أبيض لا أشخاص فيه!
قال في سرّه: لم يعد من لقاء!
الآن أدركتُ الفرق في الاغتراب، فهو يجعلني الميّت الحيّ أو الحيّ الميّت.
سمير عوض