العـــــدد 9353
23-5-2019
يقال: المجالس مدارس، وما أجمل المجالس التي تغني صدور الجالسين فيها بمعرفة جديدة أو بمعلومة مفيدة أو بحكاية تكللها العبرة أو حتى بطرفة تغسل عن القلوب همومها، لكن بعض المجالس تتحول إلى محافلَ يَنزِلُ بالجالسين فيها عذاب الدنيا وقصاصها حين يتصدرها ويمسك بناصية الحديث فيها أحد أقطاب ثقافة العناوين (وما أكثرهم هذه الأيام) ممن يدعي غزارة المعرفة وحسن الإلمام بكل المواضيع في مختلف المجالات ويتظارف أمام الحاضرين فيصف نفسه بأنه (فأرة كتب) لا ينام قبل أن يقرض كتيّباً أو جزءاً من كتاب وهو في الحقيقة قارئ متجول يمر مرور الكرام على كتاب هنا ومقالة هناك، قصيدة هنا ورواية هناك، يراكم في عقله ما تيسر من الأسماء والأرقام والملخصات والعناوين ثم يتصدر المجالس ويمسك بتلابيب الحديث فيها مستعرضاً عضلات ثقافته المفتولة، وما أن يُفتح باب النقاش حتى يبدأ بقصف الجبهات رشاً ودراكاً، أرضاً وجواً، متبعاً في حديثه خطة الأرض المحروقة فيحرق بحديثه المجلس بمن وما فيه، ويمطر الحاضرين دفعة واحدة بوابلٍ من المنوعات المتلاحقة في مختلف المواضيع السياسية والتاريخية والدينية والأدبية والعلمية والفلسفية حتى ليخال المستمع أنه جالس في حضرة علامة عصره وبديع زمانه العارف بكل شيء إذا سُئل أجاب واستفاض لكن العقاب والعذاب يكمن في فهم فحوى جوابه وفك عقد تشابك كلامه، فسائله يندم مرتين مرةً لأنه تجرأ فسأل والأخرى لأنه وقع في جحيم الاستماع إلى جواب السؤال، والذكي الحاذق هو الذي يستطيع التمييز بين عباس ودباس في حديث صاحبنا الذي ينتقد نظرية تطور الأنواع ويلوم داروين ويشكك في رواية آدم وحواء ويلوم أساطير الأولين! يتهجم على الرأسمالية وتطبيقاتها معاتباً آدم سميث واللورد كينز ويستهزئ بالاشتراكية وواقعها منتقداً كارل ماركس وفريدرك أنجلز! يعتبر الشعر العمودي قيداً يطوّق انطلاقة التعبير ويسب ويشتم الساعة التي نشأ فيها شعر التفعيلة وانفلات القواعد الشعرية! يرى الدين أفيون والإلحاد نقمة والتراث عائق والتاريخ كاذب والديمقراطية مستوردة والليبرالية معلبة والزواج مؤسسة فاشلة لا يعجبه العجب ولا صيام رجب، والمضحك المبكي أنه لا يمتلك أدنى تصور لحل أتفه المشاكل وإن فعل وحاول تصور الحل أدخلك في حيص بيص وعاد إلى صاحبيه عباس ودباس، بالمختصر المفيد حديثه خنفشاري وثقافته خنفشارية، وبمناسبة الخنفشار هل تعرفون من أين أتت هذه الكلمة؟ قصة هذه الكلمة أن رجلاً عُرِفَ بالتَعالم والاختلاق فاتفق ستة من أصحابه على فضحه فاختلق كل واحد منهم حرفاً، الخاء النون الفاء الشين الألف الراء وصنعوا من هذه الأحرف كلمة هي (الخنفشار) وعندما جلسوا إليه سألوه أتعرف الخنفشار؟ قال نعم هي نبتة صحراوية يتجبّن بها اللبن بل زاد على ذلك وأنشدهم: لقد عَقَدَتْ بقلبي محبتكم كما عَقَدَ الحليبَ الخنفشارُ.
شروق ديب ضاهر