الوحدة 6-4-2023
ما بعد السادس من شباط ليس كما قبله، لحظاتٌ حبست أنفاس الأيام، فجأةً توقّف الزمن عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة صباحاً، استفاقت الأرواح على هول مُصابٍ أليم، أفجع عيوننا وأدمى قلوبنا وفطَر أرواحنا وكسر نفوسنا.. وجوهٌ حائرة خائفة تعلوها الرهبة والخوف.. حياةٌ تحت الركام، وألمٌ يملأ صداه الآفاق، وموتٌ يتربّص تحت سقف وأعمدة بلا أمان، تاهت فيه الأمّ عن ابنها، وضاعت استغاثات الأبناء تحت الحطام وفوق الآلام، يومٌ لا يشبه ايّامنا السابقة، وتجربة مريرة سنذكرها طويلاً. وماتزال تبعات نكبة هذا الزلزال المدمّر الذي ضرب مدينتي اللاذقية وجبلة وريفهما حاضرةً في كل تفصيل من تفاصيلنا اليومية، ولا حديث يخرج عن آثار هذه الكارثة في مختلف النواحي.. الجسدية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وو… ولعلّها تتنافس فيما بينها لناحية الأكثر ضرراً وتأثيراً، لكن يبقى الضرر الأكبر الذي وقع على أطفالنا وأبنائنا، فنحن الكبار يمكننا السيطرة -إلى حدّ ما- على ما اجتاح أنفسنا من مشاعر الخوف والرّعب والهلع والألم والحزن وسواها… لكن كيف بإمكان أطفالنا تجاوز كل هذه المشاعر وغيرها من مشاعر الفقد وعدم الإحساس بالأمان والاستقرار وهم يخوضون أصعب محنة، عجز حتى الكبار عن تجاوزها؟.
وبالتأكيد الضرر الأكبر الذي لحق بهم هو الفاقد التعليمي وانقطاعهم الدراسي عن مواصلة التعلّم والدراسة، وعن التواصل مع المدرسة وزملائهم ومعلّميهم، وما خلّفه ذلك من تشتّت وضياع، عدا عن الأذى النفسي الذي أصاب من نفوسهم مأساةً ومعاناةً، وأحدث فراغاً لا يمكن ترميمه أو سدّه بسهولة، إنّما يحتاج إلى تكاتف جميع جهود المختصين وغير المختصين سواء من الكوادر التعليمية أو التدريسية أو الإرشاد النفسي والاجتماعي الذي يقع على كاهله المسؤولية الأكبر في تخفيف آثار هذه الكارثة عن وجدان أبنائنا ونفوسهم المتعبة والمنهكة، وضرورة إخراجهم مما يعانونه، وبالتالي يجب عليهم الاضطلاع بمهامهمّ كمرشدين نفسيين واجتماعيين ورفع معنويات أبنائنا الطلبة وإعادتهم لمواصلة حياتهم الدراسية كالمعتاد، مع مراعاة كل ما لحق بهم من أذىً نفسيّ ومعنوي…
ليس هذا وحسب، إنّما تنصبّ المسؤولية أيضاً على مدراء الوحدات المدرسية وكوادرهم التعليمية والتدريسية في ضرورة مراعاة الظرف الراهن والاستثنائي، وبذل جهود مضاعفة لإخراج أبنائنا من تبعات هذه الكارثة ليس الطبيعية فقط إنما الإنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وهنا لابدّ من تدارك ما فات الطلاب من فاقد تعليمي كبير دون اللجوء إلى الضغط والحشو في المعلومات أو الإسراع في إعطاء الدروس وتكثيفها بحجّة سدّ الثغرات التعليمية، لأن كلّ هذا سيزيد المشكلة ويصعّب حلّها ويفاقم من الضغط على الطلّاب، لذا لابدّ من وضع خطة دراسية لاستكمال المنهاج المدرسي وتدارك القطع الحاصل والفاقد التعليمي، مع استبيان حجم الضرر الذي لحق بكل طالب، والأخذ بعين الرأفة مَن تهجّر من منزله المتصدّع أو المتهدّم، ومَن فقَد عائلته، أو تضرّر جسدياً ونفسياً..وعلى المسؤولين والمعنيين التربويين تقع المسؤولية أيضاً في ضرورة الإسراع بتأمين البدائل ومستلزمات العملية التعليمية، سواء لمن لم يلتحق بالمدارس بعد، إما لعدم جاهزيتها لاستقبال طلابها، أو بسبب بُعدها وصعوبة الوصول إليها، أو لمن فقَد كتبه ومستلزماته المدرسية وهُجّر من منزله..
ندرك جيداً أن المأساة عظيمة والأضرار هائلة وستلاحقنا تبعاتها سنواتٍ وسنوات، ولن نخرج منها بأقل الخسائر، لكن الفقد كبير وواجب على الجميع ملء فراغه، وتعزيز الحالة النفسية وتقديم الدعم المعنوي لمن فقده، وهذا ما لمسناه منذ الساعات الأولى للنكبة، بتضافر جهود المعنيين كافّةً، وتقديم كل ما يلزم من تسهيلات وأدوات لتجاوز هذه المحنة فهي كارثة جمعية وليست فردية، وتعاون وتعاضد وتآزر كل أفراد المجتمع لإغاثة المنكوبين وإعانة المحتاجين، والدعم المادي والروحي أساسيان في كل ما سبق، وما بين فقدان الأمان والفاقد التعليمي شاطئٌ ترسو عليه أرواحنا المتعبة والمنهكة، فالأهالي اليوم بين هاتين النارين، ومَن يطفئ لهيبهما؟…
ولعلّ المتضرّر الأكبر من كل ما سبق طلاب الشهادتين الأساسية والثانوية، وما لحق بهما من ضغوط فاقمت أزماتهم النفسية مع هذا الكمّ الهائل من مشاعر الخوف والضياع وعدم الإحساس بالأمان العاطفي، وهنا يجب تركيز جهود أهلهم وذويهم ومدرّسيهم وتكاتفهم جميعاً ليكمل كلّ الآخر، والخروج من المأساة بأقل الخسائر والأضرار.
في ملفّنا الآتي نسلّط أضواءنا الكاشفة على جزء يسير من هول الكارثة، علّنا نوصل أصوات واستغاثات مَن عاشوا ومازالوا يعيشون أسوأ كابوس في حياتهم، علنّا نسمع صدىً يخفّف وطأة الكارثة والمعاناة لا يزيد من طينها بلّاً!؟.
ريم جبيلي