العدد: 9324
1-4-2019
وسط نهار مقفر وفقير الحال يتسللون إلى أجواف الحاويات، يغطسون فيها ببطون خاوية، تشاركهم مائدتهم القطط والجرذان، ينقبون في أكياسها وقببها لاستخراج نفط عيش أو ياقوت ومرجان لإبحار مركب رزق أو أثر لبصيص حياة، تتلطخ أوجههم وأيديهم بصباغ قرفها وتزكم أنوفهم أوساخها والقلب منكب على أوجاع.
وبعضهم (وهم الوجه الحضاري والأرقى والأنظف، تجار قراضة) ممن يملك رأس مال بسيط يمكنه أن يتجول في الأحياء وينادي إلى البعيد (مين عندو نايلون وغسالات وبرادات ونحاس وألمنيوم للبيع) ليبادلوها ببعض المال، ويحملوا مغبة العمل لغيرهم، والذين ببساطة ينبشون في الحاويات وتجمعات أكياس الزبالة عما يسد رمق أطفالهم وعائلاتهم ويقيهم شر أنياب الفقر والجوع.
زبالة قوم عند قوم هي رزق وعيش أولاد
رأيت قدميها الصغيرتين تنفذان من بين أحشاء الحاوية ظننتها وقعت فيها، اقتربت من الحاوية فإذا بصبي آخر ينقب بين أكياس قليلة حيث فرغت الحاوية ورحلت القمامة منذ ساعات فقط كما قال الصبي (عاصم) الذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات بسحنته السمراء التي تلبدت بالقذارة والأوساخ، وكان بداية قد رفض الجواب حتى استأنس ووعدته ألا أبوح لأحد بأمرهما كما أني لن أصورهما، عندها بدأ بسرد حكايته والتي تتشابه بكل القصص التي تنم عن الفقر والعوز، فأشار إلى أن هذه الصغيرة هي أخته هند تصغره بعام، وفي البيت أمه وجدته، هم من إدلب ويسكنون في الرمل الجنوبي، ولا معيل غيره في البيت، والده لا يعلم أين يكون فهو مفقود منذ أعوام، لهذا هو وتلحقه أخته للبحث عن أي شيء يلبس أو يؤكل أو يمكن بيعه لكسب بعض الليرات وليس بقدرتهم القيام بغير عمل وهو الأنسب بما أنهما صغيران، كما أنه نوه إلى أن جدته تدفعهما لهذا العمل بعد خروج والدتهما للعمل في تنظيف البيوت دون أن تعلم بأمرهما، فهي لا ترجع حتى مغيب الشمس وتكون منهكة وليس لها حيلة على تفقدهما والسؤال، فقد أرخت أمرهما للجدة التي تجلس طوال النهار تنفس دخان أركيلتها بين ثرثرات الجارات.
أحمد وسامر جلسا يرتاحان على رصيف في ساحة الشيخضاهر بعيداً عن أعين المارة وخطوات أقدامهم، وقد وضعا نصب أعينهما حملين كبيرين من الكرتون ليكونا حمولة سيارة ليست صغيرة، سألت الصبي الكبير أين أنت من المدرسة واليوم دوام؟ فرد: تركتها من زمان، فقد أصبحت شاباً عمري 13سنة لأساعد والدي المريض.. عندها نظرت للصغير الذي يحوص في المكان وأعدت نفس السؤال: فأشار بأنه لا يحب المدرسة والمعلمة تضربه وهو الذي لم يدخل أبوابها يوماً، وأكد الكبير أنه اليوم ليس بحاجة للبحث عن عمل فكل من دق بابهم (كومجي، صيانة أدوات كهربائية، ..) وحتى محلات بيع ألبسة وأحذية وسوبرماركات رفضوا تشغيله أو تعليمه المهنة، فما كان أمامه غير هذا العمل وهو بسيط ويناسب حجمه كما أخوه الصغير، يلمان عبوات الكرتون من أمام أبواب المحلات الكهربائية والغذائية وحتى السوبرماركات، ويجمعانها بعد رصها على العربة بأكوام، وقد حان موعد لقائهما مع والده الذي سيحضر سيارة تنقلهما والبضاعة إلى الرمل الجنوبي لبيعها للتاجر، وأكد أن اليوم كان نتاج عملهم كبيراً ومن المؤكد أن الوالد سيثني عليهما ويكافئ العائلة بصحن كبير من الحلويات.
أبو دلال وأي دلال لعائلته اليوم وقد رجع خائب الظن وفارغ اليدين بل أكياسه التي اعتلت صهوة دراجته الهوائية نفخ فيها الهواء طبولاً تقرَع بالجوع وتقرِع صاحبها بالعتب واللوم والحسرة.
افترش الرصيف المقابل لتلك الحاوية التي استكانت في الرمل الشمالي وبيده سيجارته ينفث معها هموماً وآلاماً، وقد حفر الزمان على وجهه القسوة والجفاء، وكيف لا؟ والناس ينظرون إليه باشمئزاز منذ بداية عمله في البلدية (زبال) حتى أولاده حين يغضبون يرمون عليه قشور بواطنهم ودواخلهم من خردوات استعارتهم وسخريات الناس، في حين زوجته حنون من بين كل الناس تقول له عند دخوله البيت: (الله يعطيك العافية يا زينة هالحي، نظفته وأعدت جماله وعافيته والجيران كلهم لك ممنونون) فقال:
لطالما يتعرض من يكنس الأحياء والطرقات لمضايقات الناس ونظراتهم القاسية، فكيف بمن ينبش الحاويات؟ فالأمر أضعاف من الاحتقار والقرف، فلينظروا إلى أمرهم ويفكروا؟ ألم تقبع في بيوتهم نهاراً ويمكن أياماً وهم يقيمون معها ويقلبونها كل حين، حتى ينقلوها إلى الحاوية بكل كبرياء وخيلاء على أنهم نظيفون؟ ثم ليأتي أحدهم كمثلي وينتشلها ويأخذ ما ينفع منها إلى تجار في الرمل الجنوبي لتعاد صياغته ويرجع إليهم بشكل جديد وهم ضاحكون، وليس منها يقرفون أو يستهجنون مثل فوارغ المشروبات وعبوات الشامبو والمنظفات وغيرها الكثير..(الحياة صعبة وبدنا نشتغل لنعيش، وما بمد أيدي لبني آدم حتى لو كان ابني)
أبو محمد وقف بعربته الحبلى بأشياء وأشياء أمام حاوية تربعت على مفرق الدعتور، وبدأ (بنكش) الأكياس فيها ليزيد من الفوضى التي حولها، ولما اقتربنا منه تفاجأ بالسؤال: ماذا تفعل، وأين الكفوف والواقيات؟ فرد دون أن يعيرنا اهتمام، ونظراته تثقب جدار نايلون الأكياس، كما ترين أبحث عن بعض الأشياء التي يمكن بيعها مثل النحاس والألمنيوم ومعدات وتجهيزات قديمة وحتى الخبز، ولا أجد ذلك عيباً وليس منه إثماً، وقد اعتدت الأمر ولم أعد أشعر برائحة ولدي مناعة ضد أي مرض ولا حاجة لي بالواقيات والكفوف، أصبح الوضع مألوفاً حتى بالنسبة للناس الذين حولنا.
اليوم زرت عدة حاويات تمركزت في أماكن مختلفة، ولكل منها مقام، فأحياء الأغنياء بالطبع فيها الأجود والأوفر من الأحياء الفقيرة مثل الدعتور مثلاً، كما أن الشوارع التي تكثر فيها المطاعم والمحلات هي الأفضل لعملنا، إذا يمكن أن نجد الصحون والملاعق وغيرها من المأكولات والمشروبات والكثير أيضاً، والذي يمكننا بيعه من أجل العيش بكرامة ودون حاجة من أحد، لدي عائلة كبيرة زوجة وطفلتان مع والداي العجوزين، والبيت بهم يضيق فكيف بالعيش أن يكون يسيراً ولم أجد عملاً أو وظيفة غير بيع القراضة التي أجمعها بكل أصنافها ولا أوفر شيئاً (ملابس قديمة وأدوات كهرباء وأسلاك معدنية و..) الزبالة بمراتب ونوعيات وكميات، وأقل يوم أجني فيه ألف ليرة، وتزيد لألفين أكثر الأحيان، الحمد لله الحال عال العال ويغنينا عن سؤال الناس.
ومما نراه عند وصول سيارات القمامة للحاوية يقوم العمال بجمع ما فيها من عبوات وفوارغ بلاستيكية وغيرها من ألعاب وماكينات، يجمعونها في كيس نصب على أحد جوانبها اليمين أو اليسار (وما حدا حالو أحسن من حدا، الكل بالعيشة والهوا سوا).
ولدى سؤالنا أهل القانون عن أية عقوبات أو إجراءات لديهم لردع نبش القمامة والحفاظ على نظافة المكان، وعمالة الأطفال و.. رد الأستاذ المحامي سامر بأنه لا يوجد نص قانوني يحاسب هذه الفئة من الناس، وليس من قانون محدد لهذه الحالة فقط قانون النظافة العامة في حال أدى فعله لتلويث الشارع أثناء النبش.
المرشدة النفسية رغداء خير بك أفادتنا بأن هؤلاء الفئة من الناس هم أفراد مشردون، والبعض منهم لديه من يشغله وغيره من الأفراد لصالح أعماله، لينتشروا في أماكن مختلفة من المدينة، وفي آخر النهار يجتمعون لتسليم ما التقطوه وجنوه لقاء مردود مادي ضعيف لا يغني ولا يسمن من الجوع، كما أن بعضهم يفتقد للمأوى الذي يؤمنه له (معلمه) في بناء سكني قيد الإنجاز أو مهجور وتحت الركام أو درج البنايات، وأكثرهم بلا مأوى يفترشون بساط حديقة بكرتونة لمّها من الحاوية في طريقه أو برميل يحشر جسده فيه، فأغلبهم ليس لديه عائلة وإن وجدت فهي مفككة بالتأكيد، حيث الأم مطلقة والأب يدفع بأولاده للعمل وجمع ما في الحاويات، وهنا الطامة الكبرى حيث أنهم أخرجوا من التعليم الإلزامي وحرموا من تحصيلهم العلمي كغيرهم من الأولاد وحتى ممارستهم لطفولتهم أيضاً والتي هي لهم حق مشروع.
يتعرضون لأذى نفسي وجسدي وفكري:
نفسي يتجسد في تعرضهم للتعنيف وإجبارهم وإكراههم على أعمال لا يرغبونها، كما فيها امتهان لكرامتهم وطفولتهم وهم يرون أبناء جلدتهم بثيابهم المدرسية يسعون للدرس والمدارس وهم بملابس رثة ممزقة ومتسخة، ينغمسون في الحاويات المقرفة.
فكري يتجسد بغرس أفكار التشرد والقيام بالموبقات من عمليات سرقة وسطو وتدخين ومخدرات وتحرش جنسي ..وهو تشويه للفكر بكل أبعاده.
جسدي يتجسد في تعرضهم للضرب والأذية من قبل (المشغلين) لهم في حال عودتهم آخر النهار بأيدٍ فارغة، لإضافة إلى ما يتعرضون له من أمراض نتيجة لتلوث وتناول الأطعمة من المعلبات المنتهية الصلاحية المرمية في الحاويات.
وعند سؤالنا إذا ما كانت توجد جهات تعنى بأمرهم ورد الأذى عنهم وحمايتهم؟ أجابت نعم توجد مثل مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل مشكورة جهودهم على ما قاموا به للحد من انتشار هذه الظاهرة والعمل على إيواء هؤلاء المشردين، حيث قاموا بإيجاد مأوى لهم ودور رعاية كما قدمت المساعدات المادية والطعام واللباس، بالإضافة إلى توفير فرص تعليم لمن هم في سن التعليم الإلزامي، وتأمين فرص عمل للكبار ذلك من خلال تشغيلهم بورش صناعية صغيرة، يتقاضون فيها أجراً يساعدهم على تأمين حاجياتهم، وهو ما يشغلهم ويبعدهم عن أعمال نبش الحاويات التي لا تتناسب مع إنسانيتهم.
أمامنا هم في الحاويات ولكن ما خفيَّ..!
باتت ظاهرت البحث ونبش حاويات القمامة تشكل مصدر دخل لبعض الأسر، بالرغم من مخاطرها الصحية والبيئية، وفي حياتهم قصص هم أبطالها سواءً برغبتهم أم قسراً عنهم ومنهم من يقف وراءه أشخاص لدعمهم وتشجيعهم يدعمه ويشجعه مقابل استقلال تعبهم وإعطائهم الربح القليل.
بعضاً من قصصهم رواها لنا أبطالها:
مروان ابن الثالثة عشر عاماً: منذ كنت في السابعة من عمري وأنا أعيش هذه الحالة أُصبح على الحاويات كل يوم جمعت بيننا ألفة، أقصدها لأرى ماذا تخبئ لي بين ذراعيها، تغلغلت الرائحة وسيطرت على كامل جسدي لدرجة أنني لم أعد بها وخلقت عندي مناعة شديدة وأتفاجأ برؤية الناس ينظرون ويغلقون أنوفهم ، أعيش من مخلفات الناس وفضلاتهم.
خالد: أضع الأكياس على دراجة هوائية بعد أن زودتها بعربة صغيرة، أقف بجانب كل حاوية لأجمع كل ما أجده بداخلها من بلاستيك وحديد وكرتون وفي المنزل أقوم بفرزها وبيعها إلى تجار، أنا شخص عاطل عن العمل وبسبب انعدام فرص العمل وقلة الحيلة لجأت إلى هذا الحل لكسب المال، وأحياناً أجد بعض الحقائب النسائية والمدرسية وكذلك الألبسة والأحذية غير التالفة.
أستخدم الأيدي والعصا في النبش والمكان الأكثر رزقاً الحاويات داخل المدينة والأحياء الراقية، والأوقات المناسبة في الصباح الباكر.
تحسين: أفضل البقاء في محيط صالات الأفراح لعدم قدرتي على التجوال، حيث أجد علب المشروبات والصحون ودائماً في وقت متأخر ليلاً ولا أحد من يشاركني مسيرتي سوى القط والكلاب، وهناك بعض العائلات يتعاطفون معي، ويضعون علب البلاستيك في أكياس، كذلك الملابس وأحياناً يوفرون لي بقايا موائدهم في علب خاصة وأحملها لعائلتي.
السيدة منيرة: هناك أشخاص يعتادون على القيام بهذا العمل على الرغم من عدم حاجتهم لذلك، حماتي إحدى السيدات تستيقظ كل يوم باكراً وتتجول في الشوارع وتعود حاملة معها بعض الأكياس والعبوات الفارغة ونحن دائماً نعمل على حملها ورميها في الحاوية حاولنا كثيراً منعها من ذلك إلا أننا لم نجد الحل، علماً أننا نقفل الأبواب جيداً ودائماً تخرج مسرعة، وعند عودتها تقول بأنها خرجت لممارسة الرياضة.
السيدة ميساء مدرسة: هذه الظاهرة سلبية جداً ومؤثرة وخصوصاً الأطفال الذين أعمارهم صغيرة، بداية الأمر كنت أحزن على هؤلاء قررت أن أساعد البعض منهم بإعادتهم إلى المدرسة على نفقتي الخاصة وبمبادرة من بعض المديرين، إلا أنهم رفضوا العودة ونيلهم التحصيل العلمي الذي يجعل منهم أشخاص فاعلين وأصحاب شأن مهم مقابل سعيهم وراء كسب المال من فضلات الناس ظناً أنهم وجدوا لأنفسهم مهنة ورزقاً لمستقبلهم وأمثال هؤلاء يعيشون على هامش الحياة.
هــــدى علي سلوم – معينة أحمد جرعة