الوحدة: 31- 3- 2022
لحظة انبلاج فجر هذا اليوم في لاواديسّا الجمال والحضارة، وفيما كنت تطالعين الأخبار الجديدة، تنتقلين إلى “اليوتيوب” الذي ما إن تفتحين حاسوبك حتى تذهبي إليه ركضاً، إلام ترنين من أغان؟! أتتربّصين بالمارش الروسي، عشقك القديم الجديد؟! وتكتبين على صفحتك في موقع التواصل الاجتماعي حروفاً من حبّ وعشق لتلك السواعد التي تستعيد الأرض شبراً شبراً من أصابع سوداء تحرق الأخضر واليابس..
وفيما أنت منهمكة بهذه الكتابة يقفز إليك صديقك الجندي الافتراضي الجديد، كمظليّ يهبط إليك: ماذا تفعلين؟! اكتبي، اكتبي! كأنه يتربّص بك هو الآخر، ماذا يفعل؟! ماذا يكتب؟! كنت قد أشعلت سيجارتك منذ قليل، وفيما تفكرين، وفي إمعان منك في الإجابة، تشعلين سيجارة أخرى سهواً، أإجابة تطلب مني ياصديقي أم مقالة موسّعة؟! أشعراً تطلب أم كتابة نثريّة؟! أمعقول؟! وأنتم من سطّرتم وتسطّرون القصائد والملاحم لهذه الحبيبة السوريّة؟! أيّة كتابة تطال النجوم التي تلمع على أكتافكم؟! أيّة حروف تضاهي بمعانيها تلك المعاني التي نثرتموها وتنثرونها في فضاء المدن؟! هكذا تفكرين، وهكذا قد رددت على سؤال صديقك الجندي الذي مشى بأقدامه طوعاً ليكون إلى جانب أصدقائه الجنود.. وتتذكّرين أصدقاءك الجنود الافتراضيين ولم يكونوا إلا جنوداً حقيقيين، أفعالاً وطلقات..
أولئك الذين افتقدتهم، ولم تعودي تقرئين لهم تلك الحروف التي كانوا يسطّرونها في صفحاتهم وعلى أرضهم..
كم كانت حروفهم رائعة المعاني؟! كنت تعجزين عن كتابة حرف كتلك الحروف..
كنت تقفين عاجزة أمام مشاعرهم وأحاسيسهم ومدى عشقهم لتراب جبلوا منه وعادوا إليه..
صور وصور رحت تعيدين فتحها في صفحات التواصل؛ لتزرعي فوق أجداثهم وروداً ورياحين في يوم متجدّد، ولم تجد إلا زيارة الأضرحة سبيلاً للوقوف على المعاني والدلالات! تتذكرين كلّ الجنود الأصدقاء، وكلّ الجنود الذين كانت بنادقهم صديقاتٍ لك ولهم.
وتتذكرين كل تفاصيل الاستشهاد التي لاترق إليها ملاحم..”كانوا الخيالة، تلج وصهيل وخيل، مارق ع باب الليل، وكانت أصواتن تاخدنا مشوار، صوب المدى والنار”، كأن كل أصدقائك الذين ماعادت حروفهم تصل إليك كانوا يدركون مصيرهم المشرّف،كانوا يجعلونك تعتادين غيابهم كيلا يصدمك الرحيل الأخير، كنت تبكين وتفخرين، وتعانقين بقية من صمد ومازال يطلق رصاصاته في الوجوه القذرة. كؤوس من دم كانت تلمع على موائد العشاء الأخير، هذا هو الدم، دم العهد الجديد الذي يهرق من أجل الخلاص. هذا هو الجسد الذي يقدّم من أجل أن يعود رجلُ السلام ونبيّه!.
وموسيقا بلون الماء رحت تسمعينها منذ الصباح الباكر، “حلفتك ياحبيبي، لاتنس ياحبيبي لما بتسمع هالغنية فكر فيّ ياحبيبي” كم كنت تكتبين على خريرها قصصاً ومواويل، لتلك الموسيقا انسياب آخر في هذا الصباح، صوت الأوكورديون يعيدك إلى زمن ساحق في جماله، زمن حصلت نهايته المفجعة لحظة إطلاق أول رصاصة لتردي هواء بلادك قتيلاً، نارٌ وانتهى المشهد الجميل وبدأ الجنون على أصوله، وتحولت كل أنواع الموسيقا إلى دماء وقلوب وخراب، وتحوّلت طرقات السفر إلى محطات فارغة من مقاعد الانتظار.. تسمعين صوت الكمنجات وتصيخين السمع إلى كل الأصوات التي نجمتْ عن بلادك.. ترقصين وتفرحين على ألحان عشقها.. أصوات علتْ وأخرى كُبتت وتحشرجت في حناجر البيوت.. تلعنين أمريكا منذ نشأتها على جثث الهنود.. تلعنين كل يهود العالم، وتدعين إلهك أن يعيدهم إلى الشتات، بعد أن شتّتوا مدنك وأهلَها، ومدناً أخرى وأهاليها، وقطعوا الرؤوس، رأس الضابط ورأس أبي العلاء المعري، ورأس السيدة العذراء..وصلبوا الجنود، الجندي السوري، والجندي الروسي، وجنوداً آخرين عبر تاريخهم الدموي، تضحكين على غبائهم، بقي رأس الحيّة لم يُقطع، سيسحقه أهل البلاد بأقدامهم سحقاً لا قيامة له بعدها.. أين أنت ياقدس؟! هكذا كنت تنادين في أعماقك، وتتذكرين نذرك “حافية القدمين على طريق دمشق، وعلى طريق الجلجلة”! وتتذكرين أول رأس مُدّ له نصل خنجر، وأول رأس علّق على حبْل، وأول رجفة لطفل، وتمثال الحريّة، وأوّل كذبة: “هرِمنا”.. تقهقهين، وآخر صيحة “هاي هيي الحريّة اللي بدكون ياها”.. وآخر غضبة: “الشعب يريد فكّ الحصار” وآخر لحيّة بصقت عليها، وحجارة الدومينو هل نسيتها؟! ورقعة الشطرنج هل غابت عن وعيك؟! الموسيقا تعزف بأوتار الخلاص سماءها، والمشاهد تغلي في ذاكرتك.
ذاك الطريق الممتد على لون بلادك لم تزحزحه الرصاصات والانفجارات من مخيلتك، كنت تمشين في طريقك عائدة إلى بيت الحنين.. تقتربين من غرفة يفوح منها عطرُ تاريخ.. تمعنين في كلماتها “بدنا نهزّ العالم كله.. سورية لا ما بتنهز.. سورية رجالك بضلّوا سيف رجولة وموقف عز” وتسألين عن المواقف كلها، عن الضرورات القصوى، عن الشعوب، عن الجيوش، عن الحكومات، عن الرجالات الحرّة، تتذكّرين رجال العالم الذين كتبهم التاريخ فسطّروه، تتذكّرين موقف بلادك، نظراتِها المشبعة بتاريخ معتّق في لحظة شرودٍ نحو أفقٍ سماويّ المآل. موجُ الأغنية يصخب وأنت تفكّرين بالمعاني، فجر لاواديسّا يطلّ، وتبدأ النوارس بالطيران على الشواطئ، وفيما كنت ترسمين المشاهد كلها، كانت حروفك ترفرف على أغصان شجرة زيتون تقف وقفة عزّ.
بيانكا ماضيّة