وقال البحر .. التعددية

الوحدة 15-2-2022

 

 

التعددية كلمة لها رنين ساحر و في ثناياها يخوض الناس في صراعات ومُهاترات و سجالات و نقاشات يضيع معها مُؤشر البوصلة وسمت الهدف, ويعتري بعض مستعمليها أحياناً قدراً من التردد لارتباطها في معظم الأحيان بالمصالح العملية ، و يُلاحظ بأن مفهوم التعددية في بعض الدراسات و الأبحاث هو نمطٌ من تضخيم الفردية لا تجاوزها. و بعبارة أخرى: التعددية هي مصلحة وقوة لا مجرد متعة شخصية و براعة ذهنية أو طمع في تقليد التداعي الحر أو حتى إضفاء شرعية غريبة على العقد الاجتماعي ، و مما لا شك فيه بأن التعددية معركة حامية الوطيس تتفتح فيها اتجاهات متعددة، و إذا لم يتقن المرء السباحة الماهرة في هذا البحر الهائج من العلاقات المُتداخلة فسيخسر الكثير، و لا بد من احترام صيغة التعددية الداخلية حتى يعيش الإنسان بهناء ووئام مع ضرورة التمييز الحذر في ماهية العلاقة بين كل من التداخل والتدخل و دقة ملاحظة ما يُسمى مُجتمعياً بالمقامات أو المراتب ، و يتوجب أيضاً فهم الفرق بين الواقع الذي يموج بعضه ببعض و بين التجريدات التي تقوم على شيء من الحذف أو الاختصار أو حتى الإلغاء كما أن هناك حاجة لتجارب بحثية و مواقف مُتضاربة بُغية إقرار حقيقة صعوبة إدارة تعددية الحياة على مبعدة من صور التنوير الصافي أو شكل النزعة الإنسانية التي لا مُماراة فيها . مصطلح التعددية شديد الارتباط بتجربة الأزمة و إثارة المشكلات في وجه التطور الاجتماعي و إفساح المجال لتكوينات هشة تُنافس فيها الشذرات الكليات ، و تحل فلسفة التعدد محل كل من الفلسفة المثالية و أيضاً الفلسفة المادية كلتيهما و تُقلل من شأن نظريات إنسانية و اجتماعية كثيرة ، و في سياق آخر متصل فإن نشاط التعددية يمكن أن يكون فرصة لمزيد من الالتباس و الضباب الفكري بلا حساب، كما أن للتعددية أنماطاً خطيرة في حال إهمال فتح الآفاق و القنوات بين التيارات الفكرية و الاجتماعية المختلفة حيث يمكن أن يُرتكب معها حذف كثير و تحكم كبير و إغراق في التعامل مع النصوص لا مع مجريات الواقع، مع ضرورة الانتباه إلى أن بعض تلك النصوص تُشجع على كثرة التماهي مع شتى صور التداخلات و تدفع إلى الخلط بين الأساسي و الثانوي و بين الآني و المؤجل، وصولاً في نهاية المطاف إلى صور أزمات فكرية و ثقافية تُرتكب باسم التعددية نتيجة سوء فهم مكنون هذا المصطلح بصورته السليمة في خضم هذه الحياة المُعاصرة الضبابية أحياناً بتضاريس واقعها الخاص . يطفو على السطح الضيق الاقتصادي و الاضطراب الاجتماعي و أيضاً العواصف السياسية و الأزمات الأخلاقية و الأمراض الخُلقية، و كلها تُحدث آثارها في مجال التفكير و التحليل و يعيش المرء حالياً في عصر الشك لا في عصر الوضوح الفكري و يغرق في بحر الزهد من حيث الاهتمام بالمُنتجات الفكرية المُسماة بالثقافة الحقيقية الجديرة بالتقدير و النقاش ، كما و يندر وجود الكاتب النزيه و الإعلامي الأمين و الذي يشقى بالنزاع المُؤلم بينه و بين ضميره فداء لرسالة يُضحي في سبيل إيصالها و كلمة يُدرك أن عليه واجب بثها ، و تلتبس التعددية المعاصرة و التي طال التغني بها أحياناً بالعنف أو القسوة و يبرز دور التعدد جلياً للعين في تشجيع تأسيس المشروعات الفردية و كذلك في تزكيته للجزئيات المُبعثرة و أشكال الخروق و التشويه المُراد منها العمل على اختلال فكرة الميزان الفكري و بث شعور قوي و غريب بإفلاس الحياة العامة بمختلف وجوهها و مناحيها ، و مهما يُقال في شأن التعددية فلا بد من التعرف على الحاجة إلى اتجاهها المُحدد ضمن جملة من الظروف التي لا تختلط فيها فكرة النقاش بفكرة الاستغلال و المصالح و النزاع العملي كون الحياة المُعاصرة معقدة و متضاربة و التعدد الناجح فيها صعب المأتى .

 د. بشار عيسى

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار