الوحدة 25-1-2022
تُعتبر مهنة الدبلوماسية من أقدم المهن الإنسانية حيث ترجع بجذورها الأولى إلى قبل ما يُسمى بفجر التاريخ، فقد أدرك القدماء أنه من المصلحة المشتركة هو التفاهم مع التجمعات البشرية المُشابهة والمجاورة حول مناحي الحياة المشتركة، ومع مرور الوقت وانقضاء الزمن وزيادة التجربة الإنسانية أدرك الناس أنه لا يمكن التوصل إلى صيغ التفاهم دون المرور في أقنية التفاوض، وهذا الأمر كان هو البذرة الأولى لظهور مفهوم الدبلوماسية فيما بعد، وبرغم قدم المهنة الدبلوماسية والدور الذي قامت به كفن للتفاوض بين الأمم المُتعاقبة، وأيضاً الدول المختلفة قديمها وحديثها، فلم تسلم المهنة في كثير من عصورها من قدر غير قليل من سوء الفهم وقلة التقدير كون أن جزءاً كبيراً من هذه الظنون مرجعه هو طابع الكتمان وعدم العلنية وضرورة التحفظ الذي تتسم به أغلب الأعمال والمهام الدبلوماسية التي تكللت بالمكانة العالمية المحترمة والصبغة الدولية الرفيعة وارتدت ثياب عصرها البراق كمهنة تجذب الخبراء والنُصحاء وحتى نخبة صانعي السياسات، ومما لا شك فيه بأن العمل الدبلوماسي المُتصف بالفن أكثر منه علم ليس مجرد كتابة تقارير مليئة ومُتخمة بالمعلومات والتقارير ومناقشة المشاكل الإقليمية والشؤون الدولية في حيز من السرية الذي تُمثله الدبلوماسية التقليدية وإنما هو نظرة إحاطة في فهم مكنون الشخصيات والتعامل معها واكتشاف نماذج و أنماط بشرية جديدة ويعتمد هذا العمل أيضاً على استيعاب الثقافات والعقليات المختلفة في مواطنها كون الدبلوماسية في النهاية تهتدي في جملة وسائلها وأسلوبها لا بالسوابق التاريخية فقط وإنما بحس داخلي أُحسن صقله وتدريبه وبلورته وبمكونات صورة جميلة ألوانها المهارة الدبلوماسية الحادة وسلطة اتخاذ القرار المناسب في وقته.
نشأت الدبلوماسية ونمت على مر كل العصور وتعاقب الأيام كمهنة تستلزم تلمذة مُبكرة وتكريساً دائماً فلا غنى عن أصحاب العقول المهنية المُدربة التي ألفت العمل لتخفيف حدة التوتر في دوامة العلاقات الدولية بميلها الطبيعي إلى فهم سلوك العالم الخارجي وردود أفعاله، وإن غالب هذه السجايا تعتمد بطبيعة الحال على الانخراط المُستمر في قلب متاهات الحياة اليومية للمجتمعات الأجنبية مع وجوب عدم التقوقع ضمن حيز الأمور السياسية وتبادل المعلومات فقط فهناك عدد كبير من الموضوعات والأمور والقضايا التي يُفرزها المجتمع الدولي الشديد التشابك والبالغ التعقيد كقضايا حقوق الإنسان والعنف وأيضاً حماية البيئة وآفاق ترويج السياحة وشتى المعارض إضافة إلى الفرص التجارية والصناعية، ومن المعلوم بأن صداقة الأمم كصداقة الأفراد تحتاج إلى عناية ودوام رعاية وصولاً إلى نقطة كسب الثقة المُساوية في الدبلوماسية لعنصر الحنكة وربما تزيد عليها في بعض الأحيان وخير مثال ساطع وواضح يتجلى في مراحل دوران عجلة المُفاوضات التي تحتاج إلى عناية كبيرة وإعداد دقيق وحتى مجهود مُكثف وظروف مؤاتية لضمان نجاحها ومباركة مخاض ميلاد أحداثها.
يُوصف التفاوض بأحد تعريفاته بأنه فن اكتشاف شتى المصالح لتدعيم الروابط وتنمية المصالح المشتركة بين جهتين وهذا جهد مُستمر لا ينقطع ولا تنال منه سرعة الاتصالات أو بطؤها، وإذا كانت وسائل الاتصالات المُتطورة قد أصبحت أكثر تلبية وسرعة في إذاعة أي خبر أو حدث فقد زاد هذا الأمر بالفعل من مهمة الدبلوماسية في ضرورة التدقيق من صحة المعلومة وتقييمها والتعليق عليها بما يُلاحق ويُناغم سرعة وصول الخبر ذاته، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تبيان مدى الحد الذي تغيرت به طبيعة العلاقات الدولية وأثرها في جهود الدبلوماسية المأمولة والمُرتقبة، واستناداً إلى الواقع في الفهم الحقيقي والواضح لروح جوهر العمل الدبلوماسي فإن هذا العمل يعتمد في أدائه على فهم الإنسان ونوازعه والقدرة على التعامل مع كل الأشخاص ومُحاكاة عقليات و نفسيات شتى الشعوب ومحطات تاريخها بكل تفاصيلها، ومن الضروري هنا التذكير بأن مهمة الإنسان الإعلامي (الصحفي) تتمايز وتختلف عن مهمة الرجل الدبلوماسي الضليع بعلم السياسة ودروبها وشؤون الاقتصاد وحيله، فالصحافة بآليتها تهتم بإيراد صور الخبر كقيمة إعلامية وسبق صحفي وتكتب تحت ضغط كل الظروف وتأثير اللحظة وتُغطي الأحداث الإقليمية وحتى الدولية في حين تهتم آفاق الدبلوماسية بتخفيف التوتر وتقريب الفوارق ويكون نجاحها غير مُعلن وغير معروف أحياناً على خلاف الصحافة صاحبة الجلالة التي تعيش في غالبيتها على نقيض الصراعات والخلافات العلنية الحادة والقاسية عُمقاً واتساعاً.
د. بشار عيسى