الوحدة 18-1-2022
في الوقت الذي يهتم فيه الناس بتعلم ودراسة بعض اللغات الأجنبية المختلفة، ومحاولة إتقانها، فإن تدريس اللغة العربية يتعرض لنوع خطير، ونمط مُقلق فعلاً من الإهمال الذي ربما يُؤدي بها إلى أن تكون غريبة في بلادها ومحيطها الجغرافي، ولعل الأبصار تشخص والدهشة تبرز حين سماع وقراءة أمثلة وشواهد من الإهمال المتعمد وغير المتعمد للغة العربية سواء عبر الوسائل الإعلامية والوسائط الاجتماعية والمنابر الثقافية أو حتى من خلال الهيئات العلمية أو أفراد الكوادر التعليمية العامل بعضها على التقليل من شأن هذه اللغة من خلال تخفيض درجاتها عن غيرها من المواد أو تقليل ساعات المُحاضرات المُخصصة لها، وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، بل يتعداه لأخطاء عدد من الأساتذة والمعلمين لمبادئ النحو والصرف مما يجعل المرء يأسف لهذا الحال المتردي، ولعله من المُلاحظ أيضاً تضاعف درجات الدهشة حين رؤية الاهتمام الفائق بموضوع إتقان بعض اللغات الأجنبية وتقديرها بشكل يفوق درجة الاهتمام بإتقان اللغة الأم ( والحرص البالغ على تدوينها بدقة كاملة وأمانة ملحوظة كسمات جوهرية لحفظ الكلمة المكتوبة) رغم أنه كان الواجب أن يكون العكس هو الصحيح.
تستمر الشكاوي بكثرة من تدهور مستوى التعامل مع اللغة العربية وتفشي ظاهرة الضعف اللغوي إضافة إلى نشوب نوع من الصراع بين اللغة اليومية العامية على معظم وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وبين اللغة العربية الفصحى المُتراجع حضورها يوماً بعد يوم مع ظهور خطر محدق آخر وهو التبعية الثقافية التي ينتهجها عدد لا بأس منه في استهانة للسان العربي لدرجة التشكيك في أدبه وفكره، ومن الغريب والعجيب فعلاً هو موقف البعض من لغته العربية عندما يُطالب باستبدال لغته الأم كلها بلغة أخرى ليُصبح عقله عربياً ولسانه أجنبياً على الرغم من كون اللغة العربية لغة حضارة في القديم ولغة مجتمع في الحديث وفيها من الحيوية والتفرد ما يُكسبها الاهتمام في كل جامعات الدنيا ومراكز الدراسات والأبحاث في العالم بأسره، ولا عجب أبداً عند مُلاحظة تقدير معظم الدوائر والأوساط العلمية والثقافية للغة العربية كونها لغة كتاب سماوي مقدس وهذه الخاصية تتفرد بها دون غيرها من اللغات حيث تجمع بين شؤون الدين والعقيدة والعبادات وأمور الدنيا والتواصل والمعاملات، كما لا يخفى بأن هناك حقيقة يُسجلها التاريخ ومفادها بأن اللغة العربية كانت إحدى أهم لغتين تُكتب بهما الفلسفة والعلوم قديماً حيث استوعبت جميع أنماط المعرفة الإنسانية من علوم رياضية وفلكية وطبيعية وحتى كيميائية إلى جانب الفلسفية بالطبع ورسخت مفرداتها ومصطلحاتها الأدبية في معظم علوم الأمم كون الأدب هو المادة العضوية التي تُنمي و تمد أية لغة بنسمة الحياة.
يُؤكد واقع الأمر بأنه ما من مجتمع مُتماسك ومُتكامل إلا وكانت اللغة الواحدة من أهم عناصر تعاضد مُكوناته وما من حضارة ازدهرت وأثمرت إلا وكانت اللغة من أهم وسائل هذه الحضارة في التعبير عنها بُغية تجميع المواطنين في بوتقتها، فاللغة بوجه عام هي العنصر الأساسي في كل قومية والمرآة التي ترى فيها كل أمة أهم مُقومات شخصيتها وتجمع فيها حكمتها وخبرتها ورصيد قيمها ومبادئها التي تعيش بها وتُكافح من أجلها، ويكفي للمرء تتبع مُحاولات النيل من اللغة العربية ومحاربتها بشتى الوسائل والطرق ومُحاولة تقليص رقعة انتشارها بكل الأساليب ليُدرك قيمة هذه اللغة ومقدار وزنها المُؤثر في تقدم حياة أصحابها في سبيل تجميع قواهم وتوحيد أقلامهم لتسجيل كل كلمات كتاباتهم المُخلصة في صفحات طوال لتكون في مُجملها خير شاهد وأصدق دليل على عظمة وخلود حروف هذه اللغة.
د. بشار عيسى