وقال البحر ..الديمقراطية الرقمية…

الوحدة 11-1-2022

يتميز العصر الحالي بسيطرة نفوذ غالبية شركات ومؤسسات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ذات القدرة المعرفية والقوة المالية بغية التحكم في صناعة عالم اليوم، وهذا الأمر دفع عدد كبير من الخبراء إلى حد وصف عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بأنها واحة ديمقراطية للمعرفة والمعلومة فلها قدرة هائلة على تجاوز وتخطي غالبية الحدود الجغرافية والاجتماعية والثقافية كما أنها أداة صريحة للتعبير عن الرأي في حرية مطلقة، وهذه كلها أمور تتفق مع مفهوم الديمقراطية الذي يفترض وجود درجة مقبولة من التواصل بين صُناع القرار السياسي والمواطن العادي مع تفعيل دور رقابة المجتمع وإن اختلفت أشكالها ومدى فاعليتها، وقد أدت التطورات المُتسارعة والمُتلاحقة إلى إمكان تحويل مُعطيات فروع المعرفة والثقافة إلى معلومات رقمية يسهل الحصول عليها واسترجاعها ونقلها بتكاليف زهيدة جداً بحيث أصبح يُطلق على العصر الحالي بالعصر الرقمي وتُشير هذه التسمية بشكل ضمني إلى اتساع نطاق استخدام تطبيقات الإنترنت والتواصل الاجتماعي واعتبارها السمة الأساسية المُميزة التي يمكن الاعتماد عليها في تصريف شؤون الحياة المُعاصرة بشتى مناحيها.
يُعد ظهور مصطلح الديمقراطية الرقمية إحدى أهم نتائج العصر الرقمي المنطقية فتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات تُتيح مساحات واسعة جداً من أطياف الحرية الفكرية وتفتح مجالات عديدة لمُتابعة مُجمل التطورات السريعة والعميقة التي يشهدها العالم المُعاصر في هذه الأيام و كذلك الاتصال بمصادر المعلومات بغية التعرف على حقيقة الأوضاع ومناقشة ونقد و حتى اقتراح تعديل بعض الخُطط الموضوعة لمواجهة مشكلات الفرد بل وحتى المجتمع، وهذه كلها مظاهر تعكس أساسيات مفهوم الديمقراطية من ناحية ومُؤشرات على إمكانية ممارسة المواطن الطبيعي لحُقوقه المشروعة في مشاركة إدارة شؤون وطنه إضافة إلى إسهام الفرد الرمزي من خلال إبداء الرأي في وضع السياسة العامة لكل مفاصل حياة فئات المجتمع، ولعله ما سيطرأ من تجديد وتطوير وتحديث مُتواصل لنواحي آفاق التكنولوجيا سوف يُهيئ مساحات أكبر مما هو متاح في الوقت الراهن للتعبير عن الرأي والمناقشة والمُساءلة وأيضاً الكشف عن الأخطاء وإماطة اللثام عن أوجه الفساد وطيف ألوان الانحرافات، وليست الديمقراطية الرقمية عبارة عن مُجرد معلومات مُسجلة في شكل قالب رقمي يمكن اللجوء إليها والاستعانة بها لفهم الأوضاع السائدة كما يُستدل عليها من ظاهر كلمات المصطلح وإنما هي في المقام الأول مشاركة فعالة و فعلية من جانب كل أفراد المجتمع في رسم عملية تحديد الخطوط العريضة للفلسفة التي تُوجه السياسة العامة للدولة في مختلف المجالات وتوطيد المبادئ التي تقوم عليها كل العلاقات الإيجابية التي تربط مفاصل الحكومة وأجهزة الدولة الرسمية بالمواطنين على كل المستويات.
تُساعد الديمقراطية الرقمية في زيادة نسب فاعلية المشاركة الشعبية في عملية اتخاذ القرار فيما يخص إدارة شتى شؤون الدولة بفضل ما توفره بوفرة من إمكانات تحقيق التواصل، وبالرغم من أن هذا الشكل من التواصل يفتقر إلى عنصر هام جداً وهو الاحتكاك الشخصي أو اللقاء المُباشر وجهاً لوجه بين الأطراف المعنية فهو يُهيئ الفرصة للمُهتمين لإبداء الرأي من خلال المشاركة في غالبية الندوات الإلكترونية عبر الرد والشرح والتفسير، ويرى البعض من الخبراء أن هذا النمط من الديمقراطية أصبح حقيقة واقعية آنية ومستقبلية و أنها سوف تُؤلف في قادم الأيام ثقافة جديدة تقوم على الوعي والمعرفة والإدراك والمُشاركة الإيجابية والفعالة في الحياة السياسية وستُعدل الثقافة الإنسانية من أغلب مُقوماتها الأساسية وتتكيف مع الأوضاع الجديدة التي ليست سوى بداية الطريق لتحول المسار السياسي برمته نحو الاعتماد على هذه التكنولوجيات مع التأكيد على حرية التبادل الفكري في شتى المجالات.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار