الوحدة 14-12-2021
أمسى مصطلح التنمية في الوقت الحاضر محوراً مشتركاً لمعظم العلوم الإنسانية وتطبيقاتها فهناك تنمية اقتصادية (علم الاقتصاد) تنمية اجتماعية (علم الاجتماع) وتنمية سياسية (علم السياسة) وكذلك تنمية ثقافية (علوم أو نظريات ثقافية) وغيرها، ولم يكن هذا الأمر مثيراً للدهشة بمقدار ما أبرز الحاجة للبحث في مفهوم التنمية وتحديد عمق دلالاته على نحو علمي متماسك وضمن سياق نسبي ورصين، وجاء الاصطلاح الراهن المُسمى بالتنمية البشرية ليُعبر عن سمة جوهرية وشاملة في العملية المُجتمعية الهادفة لإجراء تحول عميق في الحياة الإنسانية بكل مظاهرها والتي تشترك العلوم الإنسانية في معالجتها حسب اختصاصها وميادينها المحددة بما فيها مواجهة التحديات على أنواعها، ومع أن مفهوم التنمية البشرية قد ذاع صيته وأصبح أمراً مسلماً به إلا أن الجدل الفكري حوله لم يهدأ أبداً وأدى في بعض الأحيان إلى حالة من الاضطراب في بعض الأوساط الأكاديمية حول آلية التعامل مع النظريات التنموية وتطبيقاتها نبعت من شروط موضوعية استهدفت غايات معينة أفضت إلى تطوير المصطلح وماهيته.
يُقصد بالتنمية البشرية تعريفاً على نحو محدد وواضح بأنها عملية توسيع شتى خيارات الناس والمقصود بالخيارات هي الفرص المُبتغاة في الميادين الأساسية للحياة الإنسانية وتتلخص بالغايات التالية:
– تأمين حاجات الأجيال الحالية في الوقت الراهن دون الإضرار بإمكانات الأجيال القادمة على تأمين متطلباتها.
– المحافظة على التوازن البيئي والسعي الحثيث لاستخدام رشيد وفعلي للموارد وتطويرها بصورة بناءة تحفظ حق كل الأجيال القادمة بالإفادة المُثلى منها.
– العناية بالمناحي الاجتماعية وعلى رأسها اجتثاث الفقر والقضاء على أوجه البطالة وكذلك توفير فرص عمل متكافئة للجميع وتحسين الدخل وآلية توزيعه وتوسيع خيارات الناس لتحسين مستوى معيشتهم ونمط حياتهم ونوعيتها.
– التأكيد على قيم حرية الإنسان وضمان حقوقه واحترام كرامته وكفالة أمنه وأمانه وتمكينه من المشاركة في رسم خطوط وصور مستقبله وكذلك توفير كل الوسائل الممكنة لإرساء سلطة القانون وشرعية مختلف المؤسسات المُنتخبة والدستورية.
ويشمل مفهوم التنمية البشرية أيضاً مختلف التحولات الحاصلة في هيكل الاقتصاد والقوى الاجتماعية وكذلك مجالات الحياة الأخرى ومن مظاهر هذا التحول هو جملة التغيرات الجذرية الحاصلة في مستويات النمو في الحالة العامة لصورة المجتمع واتجاهات تطوره ومدى قواه المحركة وأيضاً معدل حركة علاقاته الاقتصادية، ومن المُلاحظ أيضاً ارتباط مفهوم التنمية البشرية باستراتيجية الاعتماد على الذات التي تتلخص بعدد من المهام الأساسية وأبرزها:
– رسم سياسات إنمائية نابعة من متطلبات التطور وحاجات المجتمع الحقيقية.
– بناء قدرات ذاتية وفعالة لكي تكون كفيلة ببلوغ عتبة الاكتفاء الذاتي.
– تحرير الإرادة والالتزام باعتماد حقيقي في مضمار العلاقات الاقتصادية.
من المهم الملاحظة بأن مُكونات مفهوم التنمية البشرية المرتكزة على دعامتين أساسيتين وهما: صياغة مفهوم التنمية ومؤشر قياسها ليست ثابتة ونهائية وإنما تتجدد وتصاغ في ضوء ما ينشأ من عوامل ومجالات من شأنها أن تُؤثر سلباً أو إيجاباً في تطور هذا المفهوم، وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم التنمية البشرية ليس مفهوماً اقتصادياً بحتاً وإن كان الجانب الاقتصادي منه يُمثل العنصر الأهم فهو نسيج من مكونات عديدة تتداخل وتتفاعل في إطاره مفاهيم الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها، وبالنسبة لمؤشر التنمية البشرية فقد تم ابتكاره لقياس درجات تطور المجتمع ومستوى معيشته وأحواله العامة وشؤونه المختلفة من خلال تقدير مجموعة من العناصر منها الإنجازات التعليمية والثقافية والقدرة الشرائية الحقيقية للناس ضمن مؤشر مترابط الجوانب وهذا المؤشر مفتوح وقابل لاستيعاب مكونات وعناصر جديدة في ضوء ما يطرأ على مفهوم التنمية في المستقبل وما ينشأ من محددات جديدة لنوعية الحياة ومتطلبات المعيشة، ولعله من المفيد القول بأن نوعية الحياة هي محصلة ونتاج لمستوى التنمية البشرية وصورة طبق الأصل عنها.
د. بشار عيسى