أزمةُ المثقف.. وأزمةُ الثقافة

الوحدة : 23-10-2021

 يقول الكاتب أميل زولا: إذا سألتني ماذا جئتَ تفعلُ في هذا العالمِ؟ سأجيبكَ أنا هنا لأعيشَ بصوتٍ عالٍ. لابدَ للمثقفِ أن يتحلى بالشجاعةِ وينطقَ الحقيقةَ، وأن تكونَ رسالتهُ منحازة لقيمِ الحقِ والإنسانيةِ والإصلاحِ، ويمتلكَ قدراً من السلوك الحضاري، ومطلعاً على جميع الثقافاتِ. إنَ المثقفَ لا يحاولُ الإطاحةَ بوجهاتِ نظرِ الآخرين، فهو صوتُ المستقبلِ، وهوَ الشاهدُ على أزمانِ المجتمعات والمصححُ لها، الذي يغادرُ منبرَ الخطابةِ المغلقِ، إلى فضاءِ الحوارِ المفتوحِ، ويكشفَ اختلالاتِ واقعهِ، ويقترح الرؤى ليخرجهُ من مأزقهِ. هناكَ كثرٌ من المثقفين، لم يتوقفوا عن تجميلِ الأمورِ، وكانَت لهم مواقف حسب مصالحهم، وكل موقفٍ وضعوا لهُ ثمناً. يجب على المثقف الحقيقي ألا يخذلَ الآخرين، وما أكثر اللا مثقفين الحاليين الذينَ يبثونَ أفكاراً مدسوسة ومقولبةٌ على صفحاتِ التواصلِ الاجتماعي، ومخربةٌ لعقولِ الأجيال الحالية. خيانة المثقف تعني خيانة نفسهِ وغيرهِ، فالصمتُ خيانة، والنفاقُ أكبر خيانة. ويخلطُ الناس بينَ بينَ مفهومي المثقف والمتعلم، حيث ترى الغالبيةُ بأنَ مجردَ دخولِ الفرد الجامعة، سيتحولَ إلى مثقف، دونَ النظر إلى مخرجات مؤسساتنا التعليمية والجامعية، فليسَ كل من أتمَ تعليمهُ الجامعي بمثقف، وليسَ كل من وصلَ إلى مرحلة الدراسات العليا بمبدع، وليسَ كل من حملَ قبلَ اسمهِ لقباً تعليمياً عالياً، يشيرُ إلى مرتبة ثقافية أو اجتماعية، أن يصح إطلاق لقب المثقف عليهِ. إن صناعةَ المثقفِ وإنتاجه لا يكونان بتلك الآلية، إلا أن العقلية السائدة زاوجت بينَ المثقف والمتعلم، إنَ أنظمتنا التعليمية توحي بشكلٍ صارخِ بصعوبةِ إنتاج مثقفين قادرين على إدارة شؤون مجتمعهم، وتصحيحِ بوصلته الفكرية والاجتماعية، فالنظامُ التعليمي الذي يجعلكَ تقرأ لأجلِ الاختبار فقط، ولأجلِ أن تحملَ الشهادة لأجل الوظيفة أو المسمى الوظيفي، أو لتحملها دونَ أن تحولكَ لإنسانٍ باحثٍ في الفكر، هنا لن يكونَ بمقدورنا صناعة المثقف المنتج لأمتهِ لا المستهلك، إلا إذا صنعَ لنفسهِ كياناً قادراً على حملِ صفةِ (المثقف). لابدَ من أن تمنح المؤسسات التعليمية القدرةَ على إنتاجِ المثقفِ الحقيقي، القادر على التأثير في مجتمعهِ. إنَ الإقبال على التعليمِ باتَ في أغلبِ الأحيانِ من أجلِ المكاسبِ المادية والاجتماعية، وأكبرُ دليلٍ السباقُ المحمومُ لدخولِ الكلياتِ العلمية بشتى الطرائق. وأصبحَ مصطلحُ (المثقف) فضفاضاً وصفة تطلقُ جزافاً، المثقف بحكم التنوع الفكري والنضج المعرفي، يختلف عن المتعلم ضمنَ تخصصٍ واحدٍ، فالمثقف لديه قدرة أكبر للتعبيرِ عن الذات، أما الجامعي زادهُ ضمنَ اختصاصهِ الذي يوازي اختصاصَ جميع خريجي فرعهِ الدراسي وحسب. والمثقفُ الحقيقي بنظر البعض شخص مزعجٌ، متطلبٌ، مقلقٌ، مشاغبٌ، متفلسفٌ.. إن تصرفاتنا السلبية المغلفة بمهاجمة المفكرين، هي نتاج ثقافة معينة، وجهل متوارث، سببُ تكونَ شرخٍ بينَ المثقفين ومحيطهم. أن أزمةَ المثقف تعودُ لتنصيبِ أولياء الأمر أنفسهم مثقفاً وحيداً، ولا يحتاجونَ إلى المثقفين وأفكارهم، بل ويحاربونهم بشتى السبل. إنَ مسيرةَ المثقفين والمبدعين، كثيراً ما كانت محفوفة بالمضايقات والمصاعب، لأنَ المطلوب من المثقف ألا يسمع وألا يتكلم وألا يحلل وألا يسأل وأن يهز برأسهِ بالموافقةِ دوماً. إن تزاحمَ المثقفين على إنتاجٍ فكري لا يخصُ أحداً بطبيعة الحال، سوى لإرضاءِ النرجسية القديمةِ والمعاصرةِ، ولتتكدسَ كتبنا فوقَ بعضها عبرَ التاريخِ، من دونِ أن نقولَ شيئاً يلامسُ الحياة، هوَ بلا أي تأثير. إن الثقافة التي فشلت في أن تصنع مجتمعاً حضارياً، في ظلِ واقعٍ متخلفٍ، انتصرت فيهِ الدوغمائية والخراب، على العقلِ والوجدانِ، هي ثقافةُ فاشلةُ، والمثقفون الحقيقيونَ هم قوى مقاومةُ ومناعةُ أي مجتمع، وأنَ المجتمع الذي يرفضُ مثقفيه، سيفقدُ مناعتهُ ضدَ أمراضه.

تيماء عزيز نصار

تصفح المزيد..
آخر الأخبار