الوحدة : 2-10-2021
تعودُ الذاكرةُ إلى المهدِ الأولِ، وتراجعُ ما نهلتهُ على امتدادٍ زمنٍ فريدٍ، لا يغادرُ الروحَ، كنا نستمعُ برصانةٍ للقدوةَ الحقيقيةِ، ونسير على خطاها.
لقد هوت المعاييرُ اليومَ، ولم يبق منها سوى بقايا، تنبضُ نبضاً بطيئاً، ونتفقدها كل يوم بوجلٍ وألمٍ.
جاءَ الحاضرُ مباغتاً بأشباهِ شخوصٍ جامدةٍ لا تاريخَ لها ولا عراقة، تنضوي نحو السطحية، جعلت تفاصيلَ الحياةِ مغموسةً بالبجاحةِ، معجونةً بالصفاقةِ، حتى غدت الوقاحةُ مهارةً، والأدبُ ضعفاً في الشخصيةِ، والاختلافُ في الآراءِ والحواراتِ والنقاشاتِ مدعاة للعداءِ، معَ محاربةٍ لصاحبِ الفكرِ الحرِ، وأصبحَ التطفلُ على حقوقِ الغيرِ أمراً مشروعاً، وأحداث اليومِ الدامية من عنفٍ وإرهابٍ وسرقةٍ ونفاقٍ أكبرُ برهانٍ على ما نعانيهِ من أمراضٍ اجتماعيةٍ، وأصبحَ مرورُ تلكَ الأحداثِ أمراً عادياً واعتدناهُ، كما اعتدنا البحثَ عن معتمدِ خُبزنا وموادنا الأساسيةِ.
كثرتْ العيونُ المليئةِ بالبجاحةِ والغدرِ والنفاقِ، وغابت ضحكاتُ الخجلِ، وسادت ضحكات الصلفِ والتجبرِ.
نحنُ محاطون بشخوصٍ كثيرةُ الرعدِ قليلةُ الماءِ، حيث سادَ الجهلُ والسطحية عندما أصبحَ اشخاصٌ مشهورونَ إعلامياً قدوةً لأجيالٍ متعاقبةٍ دونَ أدنى المقوماتِ، فجعلُ فنانٍ شعبي قدوةً بعملهِ التهريجي لمن يدفعُ لهُ المالَ أكثر، ويبيعُ الوطنياتَ ولا يملكُ أدنى حدٍ منها، هوَ طامةٌ كبرى، والتسويقُ لفنانةٍ سمجةٍ نجحت بعرض قشورِ حضارتها المزيفة، هو تكريسٌ لثقافتها الضحلةِ، وإعطاءُ أصواتٍ لمسؤولٍ منافقٍ لا يظهرُ إلا في الانتخاباتِ، ويصبحُ الجميعُ حينها أحبابهُ، ويمطرُهم بعباراتِ الإطراءِ، ويستجدي الأصواتَ بذلٍ وانكسارٍ، ويُشَّهِرُ بسمعةِ الآخرينَ المنافسين بحكايا مُسيئةٍ لم يسمعوا بها ليقللَ من عددِ أصواتهم، وينشرَ حبهُ على الفقيرِ والغني، والكافر والمؤمن، الأرعن والمتزن… ليحصدَ ما استطاعَ إليهِ سبيلاً منَ الأصواتِ، ثم يختفي اختفاءَ الملحِ في الماءِ بعدَ نجاحهِ، ليعاودَ ظهورهُ في موسمِ انتخاباتٍ جديدٍ، ليصطادَ الأصواتَ مجدداً من مفتقدي الاهتمامِ الآني ومحبي عباراتِ التدليسِ.
ويعتقدُ كثرٌ بأنَ الحصولَ على جوائزَ خلبيةٍ، يحصدونَ من خلالها تهافتَ المباركاتِ على صفحاتهم يجعلهم قدوة ومثلاً، مع أنَ جائحةَ الجوائزِ الخلبيةِ ودروع التكريمِ الوهمية، باتت متفشية في مجتمعاتنا، بعدَ اختراقها وسائل التواصلِ الاجتماعي، فقد فتحَ الأنترنت نوافذَ لا حصرَ لها لأنصافِ وأرباعِ الشعراءِ والأدباءِ كي يفلشوا (إبداعاتهم) على امتدادِ الوطنِ العربي.
وكثرٌ من يفبركونَ بواسطةِ الكمبيوتر شهادةَ تقديرٍ باسمٍ طنانٍ، مثل: الاتحاد العربي لكذا أو المركز الدولي التخصصي لذاكَ، ويعطي لنفسهِ صفةَ (المشرفِ المؤسسِ) ويضعُ بضعةَ أسماءٍ وهمية إلى جانبِ اسمهِ، ثم يرسلُ نسخاً من هذهِ الشهاداتِ للقائمينَ على النشرِ في كافةِ أرجاءِ الوطنِ.
فإذا ما أرسلوا قصةً أو قصيدةً أو مقالاً دونَ الوسطِ، يكونُ حظهُ في النشرِ أكبرُ من حظِ حنا مينة أو نجيب محفوظ.
إن كثرةَ مراكزِ وهيئاتِ التكريمِ وإطلاقِ الألقابِ الفيسبوكية والتجارية والعشائرية والشعبية والشخصية… في البلادِ العربيةِ، هو خيرُ دليلٍ على مانحنُ فيهٍ من خللٍ فكري وعوزٍ اجتماعي منتشرٍ.
الثقافةُ الحقيقيةُ فكراً وسلوكاً والتي ينتجها المفكرونَ والأدباءُ والفنانونَ والقادةُ الحقيقيونَ لا يمكنُ حجبها عندَ عدمِ عرضِ منجزاتهم، وخيرُ دليلٍ أنَ مبدعي ونجوم الأمسِ الذينَ لم يتواجد في عصرهم جزءٌ يسيرٌ من ساحاتِ وآفاقِ تكنولوجيا الشهرةِ التي يستخدمها المغمورون اليوم، قد سبقوهم باسمهم اللامعِ وشهرتهم الباقيةِ في كل الأزمنةِ بعطرها الفريدِ، رغم كثرةِ ضجيج المقلدينَ، فالبضاعةُ الثمينةُ لا تعرضُ، لأنَ البحث عنها جارٍ دوماً..
تيماء عزيز نصار