وقال البحر… اللغة..

الوحدة: 28-9-2021

في كل لحظة ينطق الإنسان مُتكلماً، ويستقبل أحاديث الناس في نفس الوقت، ويتم ممارسة هذا النشاط، ومزاولة إنتاج هذا الفهم منذ الصغر، وعلى الرغم من مرور الأعوام والعقود واكتساب عموم البشر للغة باستمرار لكن المقدرة على إنتاج وابتكار وإخراج ألوان الجُمل وألحانها صوتياً ولفظياً و فهمها عقلياً ووجدانياً وكذلك الكيفية التي يكتسب بها الإنسان لغة البيئة التي نشأ فيها ما زالت تُحير عموم علماء اللغة وأميز فلاسفتها وتفتح مجالاً خصباً للتنظير في أبرز أروقة تعقيد النظام اللغوي بهدف إيضاح بعض مُشكلات علم اللغة العام.
تندرج أهم الجهود المبذولة في دراسة اكتساب اللغة ضمن إطار نظرية التعلم القائمة على مفهوم الاستجابة وبعدها فإن اكتساب السلوك اللغوي لا يختلف كثيراً عن اكتساب باقي أشكال السلوكيات الأخرى وعموماً تتم عملية اكتساب اللغة عن طريق تحويل صدى الأصوات العفوية الصادرة إلى أصوات لغوية ومن ثم يكون إنتاج تركيب الجُمل وفق الوعي الكامل، ويتم تعزيز هذه العملية بحيث يكون محور التعزيز إيجابياً عند إصدار أصوات وعبارات لغوية صحيحة كما يكون سلبياً في حال إصدار أصوات غير صحيحة لغوياً، ومن المُلاحظ أخذ الحروف والكلمات لأشكال صوتية ترتبط بمعنى محدد ما وله علاقة بموضوع أو حدث في طبيعة الحياة، ويرى عُموم الخبراء والسلوكيون بأن ذهن الإنسان في طفولته عبارة عن صفحة بيضاء تتلقى المُثيرات اللغوية من البيئة وهي آلة مُبرمجة بدقة لإتمام عمليات و معادلات اكتساب اللغة (أسماء- أفعال- صفات) وغيرها، فالإنسان بطبيعته يملك قدرات فطرية تُساعده على تقبل شتى أصناف وأنواع المعلومات وفهمها كونه مهيأ لاكتساب قواعد لغته الأم بطريقة لا شعورية وهذا ما يُفسر قدرة المرء على بناء لغته بصورة إبداعية بمساعدة قدراته الفطرية في نفس الوقت الذي تبدو فيه مباشرة بعض محركات العلوم السلوكية لاستنباط ألوان وأشكال نظريات تكوين نماذج التصرفات اللفظية.

يُميز أهل العلم والاختصاص مراحل اكتساب الملكات اللغوية بمرحلتين تتجلى المرحلة الأولى فيها باستعمال عموم المُفردات ومعرفة معانيها مع الربط بين أثر الصوت اللغوي وماهية موضوع الحدث في البيئة المحيطة ويتم هذا الاكتساب عن طريق السمع، وتأتي بعدها المرحلة الثانية المُتمحورة في تكرار الاستعمال وصولاً إلى درجة الإتقان لتترسخ حروف اللغات ونغمات الألسن من جيل إلى جيل، ومن المعلوم بأنه ليس كل من يعرف قواعد ومبادئ كل صناعة من الصناعات سيُجيدها بإتقان كما أن ليس كل من يُجيد صناعة من الصناعات المتنوعة يعرف قواعدها وأصولها فصناعة اللغة على سبيل المثال إنما هي معرفة قوانينها ودقة مقاييسها خاصة كما أنها بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً فقط ولا يحكمها عملاً فالعلم مثلاً بقوانين الإعراب وأصوله إنما هو علم بكيفية العمل وشجونه وهذا ما يُفسر أن الكثير ممن يُجيدون فنون الشعر والنثر لا يُحسنون حُكماً موضع الفاعل من المفعول.
يُلاحظ عند أهل النحو والبيان بأن اللغات ملكات في اللسان للتعبير عن المعاني المقصودة وتتجلى جودة اللغة وطلاقتها ومطابقتها لمُقتضى الحال بحسب تمام الملكة أو نقصانها بمقدار عند المرء الذي يكتسبها بتكرار الأفعال في كل الأحوال، وبناءً على كل ما قيل وذُكر فعلى الإنسان الراغب في تحصيل هذه الملكة أن يُبادر بنفسه إلى حفظ كلام القدماء الجاري ترقرقاً على أساليبهم وفي مخاطباتهم من خطب وأشعار ونوادر وأخبار حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم وإتقانه لعباراتهم ومُحاكاته لأقوالهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم وعاش بكنفهم.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار