اليأس.. الصندوق الأسود!

الوحدة 30-6-2021

يتسلل اليأس خفية إلى الزوايا والشقوق والتصدعات في النفس ويلتف على عنق الأحلام وبقايا الحياة التي نثرت غفلة هنا وهناك, أيام عابسة مثل تمثال الهمّ الجاثم فوق فوهة بركان, وحتى عندما نضحك يكون وجهنا شاحباً شحوب الموتى, يقول الكاتب المغربي محمد بنيس (ما نحن فيه أقوى من الوصف, هذا الذي نتألم من مشاهدته يوماً بعد يوم يتمطمط  وينفذ من مسام الجلد إلى اللحم والعظم).

 اليائس ذات بلا أحلام عرتها الخيبات في حياة مليئة بالهزائم والانكسارات يتناهبها طعم المرارة في الحلق والتشاؤم والوحشة والخذلان, يداهمه الويل كالسيل وأشباح اليأس تعوي في جدران غرفته وتحت ثيابه, توقعاته في انحدار وأحلامه في انكسار بفعل الهواجس الكامنة في الحنايا التي تخترق العقل والقلب كوهن عام حطّ رحاله في كيانه ورزح فيه, يحاصره اليأس كأفعى تلتف على غصن, يسعل ويبصق ويتقلب ويتألم وهو يقلّب أوراق دفتر العمر الشقيّ… الفنانة التشكيلية اليمنية سبأ حلاس لم تجد أبلغ من دخان الحرائق والموت والدمار لترسم حلمها عليه اليأس صندوق أسود مطمور في أعماق النفس مثل الصندوق الأسود الصغير الموجود في جسم الطائرة يسجل كل تفصيل مهما كبر أو صغر ويمتلك أسرار الفجائع والمصائب, وبعض الناس يمتلك حيلة إخفاء ضعفه وانكساراته والتلاعب بمحن الحياة كما تتلاعب هي بمصائبهم يحاولون مراوغتها والمضي مع جريان تيارها وأقدارها, يوارون صندوقهم ويخبئوه ويحجبوه عن أعين الآخرين وبعضهم يقف عاجزاً غير قادر على فك شيفرة صندوقه ولا فك طلاسمه.. فمن يجرؤ على إعلاء صوته إفصاحاً عن مكنونات كنزه الأسود ومعرفة بواطن أسراره…؟! الكاتب الأمريكي هنري ميلر لم يخجل من يأسه:( في العمق كتبت بسبب اليأس).

بعض الفلاسفة والأدباء يقرؤون رموز صناديقهم ويحولون مستنقع حياتهم إلى منطقة جمالية وطاقة مبدعة فوارة بآلاف الحكايا والمآثر الأدبية ووجهوا عدسة كتاباتهم نحو منطقة شديدة الخصوصية والحميمية في سجل ماضيهم, قرؤوا أسرار صناديقهم السوداء على الملأ وأعلنوها واستثمروها جمالياً وأدبياً بأدهش السبل دون وجل من تحولها إلى وصمة عار أو سوء سوف تلاحقهم وتقضّ مضاجعهم.. الكاتب محمد شكري استخرج كل قيئه الموجع وصنع من شنيع ذكرياته كتاباً لا ينسى في خبزه الحافي..

 يجب أن لا ننسى أن الحياة تتابع مسيرتها ولا تلتفت للوراء, والوصول إلى الهدف يتطلب الجهود المضنية ومواجهة الصعاب والتصميم على عدم الاستكانة والاستسلام لليأس, وإن ناموس الكون دائماً يقضي بشروق جديد بعد غروب فاجع وليل دامس.. هنيئاً لمن ولجت قلبه الأفراح وعمت حياته بالمسرات واقتنص السعادة في دار الشقاء.

 نعمان إبراهيم حميشة

  

تصفح المزيد..
آخر الأخبار