الجنون… فنون

الوحدة : 19-6-2021

كلما حاولت التحليق مجدداً فوق الغمام مستهدياً بوجنتي القمر في الليالي الصيفية الباسمة، تغضب السماء فجأة وتزمجر برعدها وبرقها وأعاصيرها الطارئة، ثم توجه صواعقها نحوك فتهشم أحد جناحيك الغضين لتهوي متكوراً في أرض يباب مقفرة مظلمة، وتعود مشرداً عارياً تائهاً لا تدرك أي الجهات تقصد، بعد أن فقدت بوصلتك وقدرتك على الاستشعار واستقراء ما تخبئه دفاتر الحياة المهترئة!

وحين تلتقط عيناك منارة قصية تحثّ الخطا باتجاهها لاهثاً حاملاً خشيتك من أن تكون مجرد سراب يغيب ما إن تدنو من حدودها، لكن السعادة تجتاح كيانك حين تصل وتتحسس جدرانها العتيقة وتغرف كمشة فرح من ضوئها الكابي لعله يساعدك على تلمس بؤرة الألم في جناحك المكسور ومعالجته لتحاول التحليق من جديد، فأنت مجبول بالعناد والإصرار، وربما الجنون!

نعم قد يكون الجنون، جنون تدفع ثمنه أنت وحدك لأنك لا تتراجع بسهولة عن هدف وضعته على ضفاف الحلم، تحاول الوصول إليه حتى لو راحت الهمسات تطال قدراتك العقلية، والقهقهات تصدر خفية ممن يترصدون خطواتك ليشهروا بكل زلة قد تتعرض لها على طريق الحياة الطويل المثخن بالحفر والأفخاخ…

تتلمس جناحك المحطم الذي ينز دماً من تحت الجلد، ويفجر الألم إلى حدود الأنين ومع ذلك تكابر وتصبر إلى درجة تدهشك أنت نفسك ، فترمم الأشلاء قطعة قطعة، ثم تطلق ساقيك للريح محاولاً الطيران مرة أخرى لتعلو فوق السحب الراحلة إلى المنتهى إنه نهج تمتطيه مذ باشرت الإحساس بالأشياء والبشر ولم تتراجع عنه في كل تفصيلات حياتك في السير والنوم والأكل والشراب والكتابة والكلام والحب أيضاً، لأنك تأبى الانصياع للقوانين والتشريعات الزاجرة المتجهمة، وترفض الأحكام الجائرة بحق كل ما يخالف التصورات المبهمة الغامضة التي تؤطر كل شيء جميل بمربعات من حديد صدئ يشوه صورته ومعانيه… ترفض أن تنعت كل لمحة إبداع أو قصة عشق غريبة بما يخالف حقيقتها لأنك تعرف أن اتهام (قيس بن الملوح) أو جميل بن معمر (جميل بثينة ) أو (امرئ القيس ) وغيرهم بالجنون أو الجهل هو الجنون بحد ذاته، لأن الأيام أثبتت نظرياتهم أو أفكارهم، وبينت روعة إبداعاتهم العلمية والأدبية والفنية!

فكل ما يحطم أغلال التقاليد ويتخطى المجتمعات الراكدة هو جنون بحسب النظرة السائدة في المجالات الحياتية المختلفة فهل كل إبداع مشوب بالجنون؟

وهل يمكن أن يكتب قصائد الحب العظيمة غير أولئك (المجانين)؟

باختصار نعتقد أن (الجنون فنون) لكن لا يمكن اكتشاف ذلك إلا بعد ردح من الزمن وهذه قمة التراجيديا بالنسبة لكل (مبدع مجنون).

لمي محمد معروف

تصفح المزيد..
آخر الأخبار