العدد: 9306
6-3-2019
(زوجها مستتها).. عبارة درجت في عصور أكل عليها الدهر وشرب، ولم يعد لديها مكان في يومياتنا أو نسمعها في أي مطرح ومقام، سندريللا نراها في وجه نسائنا اليوم وخالتها ابنة هذا الزمان الجائر لا يرحم ولا يدعنا نعيش بسلام، فليس غريباً أن ترتدي حذاء رياضياً وتجري طوال ساعات يومها لتلحق بالأعمال والمهمات والمسؤوليات، والأمير الذي تنتظره لا يأتي على فرسه من نسج الخيال والحكايات، لتلهث وراء سبل عيشها وفي معبد بيتها ليلاً ونهاراً بحمولة زائدة تثقل عليها الحياة، ولا يضرها أن تسعى وراء دخل إضافي يحفظ ماء الوجه وتتقن فيه اجتثاث عيش كريم وإن لم يكن فيه الأمير والقصر.
معظم نسائنا في ساحات العمل ولم تعد الواحدة منهن يستطيب لها أن تجلس في بيتها كقطعة أثاث أو ديكور يزينه، فهي تخرج يومياً لرزقها ولقمة عيشها، لنراها في المعامل الخاصة والورشات والمطاعم والمقاهي والأراضي الزراعية وتنظيف المنازل وحتى الشوارع وتقوى على تليين الحديد لأجل فتات الأولاد.
السيدة مريم أشارت إلى أنها تقوم بالكثير من العمل لأجل أولادها بعد أن هجرها زوجها وتزوج بأخرى مهجرة سكنت جارتها، وترك لها صبيين بالمدارس وعلى أبواب الجامعات، فما كان أمامها غير أن تكون عاملة تنظيفات، فهي لم تصل في دراستها لغير الصف التاسع، فقد عاشت في كنف أسرة ميسورة وحيدة أبويها مدللة وأورثوها الكثير، لكن زوجها باع أكثرها ولم يبق غير القليل الذي تزوج به وترك عائلته في مهب الريح بلا أمان، قالت: بحثت عن العمل ولم أجد غير كنس الشوارع وتنظيفها قبل صحوة الصباح والناس، كي لا يعرفني أحد ويجرح الأولاد، وأعود إليهم لأوقظهم وأرتب لهم أمورهم ليذهبوا إلى مدارسهم بكل اطمئنان، ثم أدفع الباب وراءهم بعد أن خرجت معهم ورافقتهم لخطواتهم لأنفصل عنهم ساعات في عمل آخر بتنظيف أحد البيوت عند ست (كلها أكابرية) أعمل بجد وسرعة لكن بكل رونق ونظافة، وبعجل أرجع لبيتي وأفتح بابه ليكون خلفي الأولاد، عندها أضع لهم بعض أطباق الطعام التي زودتني بها تلك المرأة الطيبة أو أعد لهم وجبة الغداء مما جلبته في طريقي من الدكان، وبعد ها أدرّس طفلي الصغير (صف رابع) والكبير (صف عاشر) تتكفل تعليمه مدرسة خصوصية تكلفني أحد الراتبين، وأعمل في آخر النهار بالسنارة وأنسج بعض الأشياء التي يمكن أن تستر أجساد أولادي وبعضها القليل أبيعه للجيران، أحمد الله وأشكره كل يوم الحالة مستورة.
أم نغم، لديها طفلتان وزوجها طلقها بعد أن ضاقت الدنيا بها وطلبت منه الفراق بالتراضي، فهو جداً بخيل وكسول، بالصراخ ترميه ليستقيظ ويسعى لعمل ما يسد رمق البنتين، ولطالما ساعدها والداها وكانا لها السند والوكيل، لكنهما تقاعدا ولم يعد باستطاعتهما العمل ومدها برصيد، والزوج يجلس مرتاحاً ولا يلفظ بغير عبارة لا يوجد عمل مع أنه يسكن القرية والعمل في المواسم وقطف الليمون والتين وفير.. طلقته لتبحث عن عمل ووجدت ضالتها في ورشة خياطة لكن المسكينة خاب ظنها فيها، فقد كان صاحب الورشة في تحقير للعاملات وكأنهن أجيرات فلم تتحمل لسانه المتسلط والمسبات لتترك العمل وتذهب مع أخيها إلى إحدى المزارع لحرق الأشجار التي قلعها صاحب العمل وتنظيف الأرض وهو ما كان يجب أن يقوم به ذاك الزوج العتيد، وتعود في المساء وقد قامت أمها بكافة مسؤولياتها لابنتيها في فترة غيابها وقد اطمأن قلبها وجاءت بغلة مجزية لكنها ليست كل يوم، فالعمل موسمي وكل حين وآخر، المهم أنها وجدت بعض رزق وعيش كريم، ولو كانت مع ابنتيها في أحضان الوالدين فالإخوة وزوجاتهم يغارون ويدسون بعض المكر والخبائث، ويحسبونها اليوم ويجردونها على قائمة الصادرات والواردات من بيت الأجداد، وهو ما ينغص عيشها ويزيد في ألمها وقهرها، لكنها الحياة وقصصها الموجعة، ستتحملها لأجل عيون (نغم وشام)
أم النور التي انشغلت بإعداد فطائرها التي انسلت روائحها على الطريق وبين خلايا الهواء لتمسك بأذيالها كل من يمر ويقترب من المدرسة، قالت: هذا مكاني منذ عشرات السنوات، وهذه (الكولبة) الصغيرة مصدر رزقي وعيش عائلتي، فزوجي مريض وقد أنهكه مرض السرطان وليس موظفاً، وكان يعمل سابقاً في طرش ودهان البيوت والمحلات، بعد أن طاشت بنا الدنيا كان هذا العمل سندي الذي ورثتني صنعته والدتي رحمها الله، فلم يعد الكيميائي ولا الشعاعي بنافع لزوجي فلجأت إلى أهل طب الأعشاب والحمد لله الذي بيده ملكوت الأرض والعباد، ابنتي لا تحتاج لشيء وغير متطلبة كغيرها من فتيات هذه الأيام لكني أحاول ألا أحرمها من أي شيء يسعد قلبها الصغير، وسكتت عن الكلام حيث الطلاب تدفقوا عليها يطلبون منها المنقوشة والجبنة والزعتر البلدي الذي تصنعه في منزلها.
مريم لديها ثلاثة أولاد، تعمل في صناعة اللوزينا والشوكولا والكوكيز والكاتوات وغيرها من الحلويات الكثير، والتي تأخذ كل وقتها صباحاً ومساء، فالطلبات عليها كثيرة وتلاحقها إلى بيتها الذي أصبح مطبخها فيه مصنع وورشة حلويات تسعد أولادها وأهلها والأصحاب، تعجنها بمرارة هذه الأيام وتكورها بأشكال تمسح وجهها بطيب الألوان والنكهات، وهي قد تعلمت الصنعة من جارتهم عندما كانت في بيت أهلها طفلة صغيرة وادخرتها لمثل اليوم فكانت رصدها وخزينتها التي طالما خبأتها لوجع هذه الأيام، حيث استطار الغلاء بالناس فقراً وعوز وزوجها عسكري على الجبهات، وطلبات الأولاد وحاجياتهم في ازدياد، وليس لديها وظيفة حكومية أو عمل غير صناعة الحلويات في بيتها مصدر الرزق والهناء.
هدى مهجرة من إدلب، مدرسة متقاعدة وتحب شغل الصوف أشارت إلى أن الحياة ثقيلة وزادت حمولتها هذه الأيام التي فيها الأسعار باشتعال لكن دون موقد غاز ولمبة كهرباء، زوجها متوفٍ وأولادها شباب، ولا تريد لهم أن يرافقوا دراستهم بعمل يؤخرهم عن التخرج ويذهب عنهم حلو سنوات الشباب، فهي تعمل مدربة صوف في إحدى الجمعيات، حيث تعلمت شغل الصوف بسنارتين من والدتها في ليالي الشتاء لأجل ردء قساوة الأيام وبردها وغدر الزمان، تنتج بعض مفارش الأسرة والطاولات والكنزات والتي فيها ما يرد الحاجة والسؤال، كما أنها تستغل أوقات الفراغ بما هو مفيد ويعود على أسرتها بالأجر والثواب، فبلوزة صغيرة تكلف ثلاث كبات صوف بألف ليرة وتبيعها في السوق بضعف المبلغ لأحد أصحاب المحلات، والشغل فيه لا يحتاج لسيولة مالية ورأسمال وقروض لمشروع كبير ولا حتى لوازم ومعدات لمحل كوافيرة أو ماكنة خياطة لمشغل، كل ما تتطلبه يد كريمة تحمل السنارة وتنسج بكل سرور سترة حال.
ندى، شابة جامعية ومن عائلة مستورة ولا يسعها أن ترى والدتها في جري بوظائفها من الصباح وحتى المساء، لذلك هي اليوم تعطي بعض ساعات التدريس الخصوصية لخمسة أولاد، حيث تدرسهم جميع المواد تحل معهم الوظيفة وتسمع لهم الدروس، لتعود إلى البيت في المساء، فالحياة والعائلة تتطلبان المشاركة ولا يمكنها أن تجلس مرتاحة وهي ترى والدتها من البيت للوظيفة وتعود للتنظيف والطبخ وفي آخر الليل تراها مرهقة لا تقوى على الحراك، فهذا يؤلم نفسها ويحرك في داخلها الشجون.
هدى سلوم