وقـــــال البحــــــر…بساط الكلمة المقروءة

العــــــــــــــدد 9301

الأربعاء 27 شبــاط 2019

 

تحتاج سُطور الأحاديث وحروف الكلمات إلى وسيلة تُظهر بريقها و ُوصل صداها، وإلى أرضٍ تتربع عليها لتَشرح معانيها، وإلى ناقلٍ يُحقق مبتغاها في ولوج لُب العقول و صميم الأفئدة.
يعتبر الورق المادة الأساسية والسبيل الوحيد لنشر مفردات المادة المقروءة والكلمة المطبوعة، ويعد أحد أهم وأقدم وسائل الكتابة عند الإنسان، حيث يُكتب عليه كل الأفكار والطروحات والمقالات والخواطر والقصص والأحداث والكتب العلمية والأدبية والثقافية وغيرها، ويسجل ويوثق عليه كل تفاصيل الحياة من حوادث وأرقام وذكريات.
في بداية عصر الكتابة لدى عدد كبير من شعوب العالم المختلفة، كان يتم تدوين الكتابات والنصوص على المواد المتوفرة في ذلك الزمن مثل جلود بعض الحيوانات وورق النخيل ولحاء الشجر، ولكن لم تكن تلك المواد ملبية للاحتياج المطلوب نظراً لكبر حجمها وصعوبة حفظها، وبعد ذلك بدأ الفراعنة باستخدام ورق البردى للكتابة عليه، و يُؤخذ هذا الورق من نبتة تنمو وتعيش في المستنقعات وخاصة في مناطق دلتا النيل في مصر، وقد كان يُصنع من ساق تلك النبتة الموجودة مغمورة تحت الماء، حيث كانت تُقسم الساق إلى شرائح يمتد طولها إلى متر تقريباً أو يزيد ثم توضع الشرائح فوق بعضها البعض وتُغمر بمياه النيل ثم تُجفف تحت أشعة الشمس بشكل جيد وتصقل بعد ذلك.
ومن المعروف تاريخياً أن أقدم نماذج الكتابة المحفوظة في مصر على ورق البردى تعود إلى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وقد انتقل استعمال هذا النوع من الورق بعدها إلى فينيقيا وآشور، ومن ثم إلى اليونانيين وبعدها إلى الإيطاليين.
وقد كان إنتاج وبيع وتسويق هذا النوع من الورق يتعرض لمراقبة دقيقة من قبل السلطة المركزية الحاكمة في ذلك العهد، لأن عدم الالتزام بتزويد الأسواق بالورق بشكل منظم ودائم يؤدي إلى اختلال كبير واضطراب في ميادين الحياة العامة وعمل كل الإدارات.
وظل الإنسان بطبيعة تكوينه وازدياد حجم متطلباته وكثرة احتياجاته، يبحث عن مادة أخرى ونوعية مختلفة تلبي طموحاته ورغباته من حيث سهولة وسلاسة أنماط الكتابة، وجودة و فاعلية الحفظ والتخزين.
وكان لظهور وإطلاق شرارة الثورة الصناعية نقطة إعلان بدء إنتاج الورق لتلبية الطلب على الكتاب، وأصبح إنتاج الورق يتزايد خصوصاً خلال القرن الخامس عشر، حيث شاع استخدامه بكميات كبيرة نظراً لوفرته في الأسواق ولثمنه الرخيص آنذاك، ومع اختراع الطباعة وتقنياتها، فقد زاد اعتماد الإنسان على الورق، وبدأت المطابع عند ذلك بالعمل بوتيرة عالية وبشكل متطور وبسرعة كبيرة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ملحوظ وواضح في الإنتاجية والوفرة في الكمية.
ومع إطلاق صافرة بدء طباعة ونشر وبيع الكتب والصحف، وإقبال الناس على اقتناء الكتب وقراءة الصحف المختلفة بشكل مُلفت ومتزايد يوماً بعد يوم، فقد بدأت المطابع في التوسع والانتشار لتلبية ومواكبة هذا الطلب المتزايد والاحتياج المُلح، وكان البحث الجاد عن منافذ توزيع ومراكز بيع وتسويق لكل مطبوعات الصحافة المقروءة، ولعل أنجع الأفكار والمقترحات هي معارض الكتب التي تقام سنوياً ودورياً في عدد كبير من بلدان العالم.
ونتيجة لكل هذا التطور والتوسع فقد حُسم الأمر، وأعُلن الفوز لمادة الورق التي لم يوجد لها بديل أو منافس حقيقي حتى الآن لنشر حروف الكلمة المقروءة، رغم كل التطور التكنولوجي والمعلوماتي الكبير والمتسارع في كل ميادين الإعلام المرئي والمسموع.
وأخيراً فبالرغم من تعرض مادة الورق لعدد كبير من الهزات والانتكاسات المختلفة، سواء من حيث مدى توفرها أو تذبذب أسعارها عالمياً، فإن هذه المادة تبقى فعلياً الاعتماد الرئيسي والحل الوحيد والوسيلة المثلى لكل العالم بدون استثناء لتوثيق وتدوين كافة جوانب المجالات الفكرية والعلمية والثقافية والاقتصادية والطبية والتجارية والصناعية والخدمية، إضافة إلى اعتبارها بكل ثقة الخامة الاستراتيجية المتميزة في نمط حياة الشعوب المتحضرة على مختلف الصعد، والمتطورة في شتى المجالات في يومنا هذا.

د. بشار عيسى

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار