مزارعون جدد يستنجدون (بشقفة أرض)

الأحد 31- 5- 2020

 

كانت فرصة مناسبة لهم ليسترجعوا ذكرياتهم في الحقول بكل هدوء، يوم كانت عامرة بالفرح والمحصول، والعنابر قائمة وغامرة بالخير وأًصناف عدة من الحبوب، ولم يعد في وجههم وحيلتهم على هذه الظروف الصعبة وغول الغلاء والجلوس في عقر الدار وخمود النفوس غير الاستنفار والاستجداء بالأرض التي لم تكن لتخيب أمل من لجأ إليها في يوم ما، وتذكروا أصولهم وأناشيد رددها الأجداد (احمل منجلك واسكب المحبة والسلام في كبد الأرض).

أبو يحيى قال: هذه أول سنة أزرع فيها الأرض التي ورثتها عن أبي، لقد وزع علينا حصصنا من الأرض التي لطالما كانت مصدر رزقنا وعزنا، لقد كان والدي يتعب كثيراً في الزراعة والحصاد، وربانا جميعنا نحن ستة إخوة بهناء، وكل منا درس في الجامعة وتوظف وتزوج وله عائلته وأولاده، وأنا مهندس ميكانيكي لم أفكر يوماً في الزراعة ومشاقها لكن شاءت الظروف القاهرة وعجز المعاش عن تلبية حاجات الزوجة ومصاريف البيت أن أرجع إلى قريتي كل يوم عطلة وأبدأ بزراعة الأرض التي خلفها لي والدي ببعض شتول من الخضار، جلبتها معي من السوق حيث تباع بالشتلة الواحدة حوالي مئة ليرة، فجئت بالعشرات منها كما أن زميلي في الوظيفة وهبني بعضها وقد كان قد سكبها وأنبتها، لأزرع ما يكفيني منها وأنا في انتظار ما يمكن أن أجنيه، فكل يومين أذهب إليها وأسقيها وزوجتي ترفض بشدة مرافقتي بعد أن أصبحت من سكان المدينة وزائرة للمطاعم والشاليهات وتقول إنه ليس عملها ولا تحب القرية فهي ابنة مدينة ولا تقدر على أعمال الأرض، وتدفعني لبيعها والاستجداء بثمنها لرغبات الأولاد، لكني تعلقت بها وأشعر بالسعادة عندما أقصد أرضي والزرع فيها ينمو ويكبر أمام ناظري حتى أني أعد الأيام لأرجع إليها وأعدها أجمل مكان في هذا الكون لي فيها فسحة ونزهة وابتعاد عن منغصات الحياة وطلبات الزوجة التي لا تنتهي ومشاكل الأولاد، أجد فيها الهدوء والسكون وأستبشر خيراً في المحصول علّه يأتيني ببعض المردود ويكف عني بلاء وشرور الغلاء والحاجة، ويكفيني أنها ستلبي حاجات البيت من الخضار فهي ستوفر علي ولو القليل (بحصة بتسند جرة).

(بقولوا اللي حوى بقر ما انفقر) هذا ما بدأ به الحديث (أبو علي، موظف بأجر محدود)  لديه بقرتان وقد اشترى البقرة الأولى بقرض من الزراعة منذ سنتين أو ثلاث، بلغ أكثر من مليون ليرة وبسنة واحدة فقط أصبح لديه عجلة رباها لتصبح حلوباً كأمها، واليوم تنتظر مولودها الجديد الذي سيأتيه بعد شهرين على الأقل، وكل يوم يبيع الحليب صباحاً ومساء والحمد لله الحالة جيدة وميسورة كما قال: كيلو الحليب ب400ليرة ولدي في اليوم أكثر من عشرين كيلو لكن العلف غال جداً وصعب الحصول عليه، لهذا أعوضه بكسرات من الخبز اليابس الذي نرميه لها مع بعض التبن والحشائش كنت أعيش على معاشي فقط والحال مستورة إلى أن أتت علينا هذه  الأيام الغابرة العابرة بصعوبة وغير سالكة من تراكم أقساط البنوك والديون لأبي حسان البقال والأسعار نار، هذا كله دفعني  للاستجداء بالأرض واستثمارها في تربية الأبقار وقد رضيت بها بعد أن حال عني الفقر وجلبت لأهل بيتي المال، لكن زوجتي لم ترض بهذا الحل وترى فيه القرف والعذاب وتسألني كل يوم أن أبيع بقرتي وأبدلها بمشروع آخر (أنضف وليس فيه روائح وقاذورات) وأنا أشد على أرضي وبقرتي التي ترعى فيها ولم يعد لزوجتي حجة لطالما أمددها بالمال الذي تشتري به ما تشتهي ويجلب لها الشباب، فليس عندها كلمة تسمعني إياها غير (هات.. هات).

السيد عماد، موظف بدرجة خامسة وليس لديه مال أو جاه غير (شقفة أرض) وهبتها له والدته بعد وفاة والده، يعيش في قريته (كرسانا) التي لا تبعد غير أقل من عشرة كيلو متر عن المدينة قال:  قبل أن أذهب لوظيفتي أعمل في الأرض أقلبها وأفلحها وأزرع بعض الخضار وقد غرست فيها بعض الأشجار، وحتى أن زوجتي تهتم بها عندما أكون في الدوام، ولها الحظ الأوفر بالعمل فيها إذ لم تحظ بوظيفة وهي خريجة جامعية تشكو الملل وليس لنا أولاد، ومع هذا نشكو القلة وعدم ضبط إيقاع المصروفات، والدتي تعيش معنا بالبيت وهو ملكها أسكنتنا معها لعدم قدرتي توفير منزل يستوجب مني دفعات كبيرة تفوق راتبي وتزهق مني الأنفاس، والدتي لطالما رددت على مسمعي ليس لك غير الأرض (يا ابني أرضك بلادك قلبك اعطيها )فهي تعطيك طالما تعتني بها، لهذا أواظب على زراعتها وبيع بعض المحاصيل والمنتجات وأجده أفضل من أي عمل آخر وإضافي، حتى أن بعضها  وفي حال امتناعي عن قصد السوق تصنع منه  زوجتي بعض المونة والمكدوس وتبيعه لأهل المدينة بتوصيات، وهو ما يوفر علينا تكاليف الحياة والحمد لله كافيها الله.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار