العدد: 9299
25-2-2019
قد تخوننا اللغة والكلمات عندما نجد أنفسنا في موقع العجز تماماً وليس بأيدينا أن نقدم أو نؤخر حيال موقف أو لقاء يتطلب جزيل العطاء… ماذا بأيدينا ولا نملك سوى الكلمة الطيبة، وأصحاب القرارات ما بين كثرة الاجتماعات تائهون.
ونتساءل: ماذا تفعل الكلمة الطيبة أمام من فقد الأمان والطمأنينة والصحة، أمام من بردت روحه وتجمدت أوصاله من صقيع النسيان والنكران لجمائله أكثر مما فعله البرد؟! ماذا تفعل الكلمة الطيبة أمام من يحارب ليبقى على قيد الذاكرة، وللأسف ذاكرتنا نحن البشر على مايبدو خائنة وناكرة.
ماذا تفعل الكلمة الطيبة أمام من نسي وجعه الأكبر وتفوق على ألمه ليفكر في وجع أبنائه الذي نخر البرد عظامهم وتغلغل الفقر والحرمان بين حروفهم وساعات أيامهم وهو لا يستطيع رؤيتهم ولا حتى احتضانهم فقدْ فقدَ بصره وجلّ صحته في إحدى المعارك التي خاضها ضد الإرهاب ..
إنه الجريح البطل عبد القادر غانم بو فاضل من قرية بقيلون في القرداحة، صحيح نلت شرف اللقاء مع الكثيرين من جرحانا الأبطال من بداية هذه الحرب المجنونة وكتبت عن أوجاعهم وحاولت جاهدة أن أكون صوتهم، ولكن عندما التقيت هذا البطل انتابني سيل من الأحزان والعجز والأسئلة اليتيمة التي لا أظنها أبداً تجد الجواب.
فكيف لنا أن ننعم ببعض الدفء والكثير من الأمان ومن قدّم لنا صحته وعافيته على طبق من ذهب لنبقى آمنين، يمكث في بيت صغير شبه متصدع لعائلته وشبه خالٍ من أي أثاث، يرقد مرغماً عنه فقد شُلت حركته في سرير قديم مرتجفاً من البرد لا شيء يدفئه سوى (حرام) بالٍ، بناته الصغيرات حوله لعل حرارة أجسادهن تدفئه قليلاً وتسعد روحه المتعبة، ورغم ذلك ابتسم لنا ورحب بنا وأكد على أنه راضٍ بما قسمه الله له.
والبطل عبد القادر بو فاضل من مواليد 1974ورث صلابة وعنفوان هذا الجبل الذي نشأ في أحضانه، وعندما شُنت هذه الحرب الشعواء على الوطن الغالي آثر أن يترك كل شيء ويدافع عنه، فالتحق بالقوات الرديفة (صقور الصحراء) وشارك في الكثير من المعارك من بداية الحرب في حمص وحماة وتدمر وريف اللاذقية الشمالي حتى اصيب في كنسبا إصابة بالغة في رأسه وشظايا في صدره وظهره وكامل جسده، دخل بموجبها المشفى الوطني في اللاذقية في 14/2/2016 استفاق فيها من غيبوبته ليجد نفسه فاقداً لبصره إثر إصابته الشديدة في رأسه، وخضع لرحلة علاج طويلة أجري فيها العديد من العمليات في رأسه مع وضع أجهزة خاصة تصل ما بين رأسه والقسم الأعلى من جسده وجريحنا البطل متزوج ولديه ثلاثة بنات صغيرات نور ورنيم ورنا وقد قالت زوجته السيدة سلوى مقصود عن حالته: إنها تزداد سوءاً فهو لا يستطيع القيام بأي حركة أو تخديم نفسه مالم يساعده أحد، وهو يتعرض لنوبات عصبية تجعله يغيب عن الوعي ويشكو دائماً من شدة الآلام والأوجاع في رأسه ويأخذ أدوية ومسكنات كثيرة دون فائدة وكلها على حسابه الشخصي.
والذي زاد الحياة مرارة والطين بلة أنّ الراتب الذي كان يتقاضاه من الصقور وقدره 35 ألفاً وهو مصدر الدخل الوحيد لديه توقف منذ ثلاثة أشهر والحجة كما أخبروا زوجته إنه تمّ حل الصقور ولم يعد لها أي وجود، وأضافت: قضينا هذا الشتاء بكل ما فيه من برد دون مدفأة ولا مازوت حيث إننا لا نملك ثمنه، ونحاول أن نتعلم العيش بأصعب الظروف وأحلكها ونتأقلم مع أي وضع، ولولا وجود البعض من الناس الخيرين الذين يحاولون مساعدتنا ولو بجزء بسيط لكان حالنا أسوأ بكثير مما ترون.
وأضافت: صحيح إنه يتألم ونتألم كثير لألمه ونتمنى لوكنا نستطيع أن نحمل هذا الوجع الكبير عنه ولكننا نحمد الله كثيراً على إنه مازال بيننا.
في ختام لقائنا مع هذا البطل وعائلته توقفت الكلمات في حناجرنا أمام الكثير من التفاصيل الموجعة التي لم نستطع وصفها كما يجب ولكننا نتساءل: هل كانت هذه المعارك والحروب التي خاضها عبد القادر وكثرٌ أمثاله, معركته وحربه وحده، وللدفاع عن وجوده وعائلته فقط؟!
وإذا كان الجواب: لا، فلماذا آل وضع هذا الجريح إلى هذه المرحلة السيئة صحياً ومادياً ومعنوياً ولماذا أقتُطع رابته ومصدر دخله الوحيد والذي يقيه الحاجة للناس على قلته، ومن المسؤول عن تأمين حقوق القوات الرديفة، ومن يجب أن تراجع هذه العائلة لتحصل على أبسط حقوقها والتي ربما قلة الحيلة وضيق ما في اليد هي من أوصلتهم لهذه الحالة البائسة؟؟
ولكن هذا لا ينفي مسؤوليتنا جميعاً بربط القول بالفعل وتقديم ما بوسعنا وعدم الاكتفاء بالاعتماد على مسؤولينا الغارقين في اجتماعاتهم ولجانهم.
وتجسيد قول سيد الوطن الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير:
(المواطن الذي يصرخ ليس بحاجة خطابات بلاغية ولا ينتظر منا التعاطف بل ينتظر منا العمل وحل مشكلاته وتخفيف معاناته).
سناء ديب