رب أخ لـــم تلــده أمـّك.. بــين القيـــل والقــــــــال

العدد: 9521

الاثنين: 3-2-2020

 

(صديقي من يقاسمني همومي ويرمي بالعداوة من رماني، ويحفظني إذا ما غبت عنه وأرجوه لنائبة الزمان)، هذا وقد كنا وصاحبنا بأمان وخير وفير، أما وقد كثرت النوائب والأوجاع من حرب ضروس فقد انفضوا من حولي وبأعمالهم وأمور الحياة هم منشغلون واندحر بينهم الخل الوفي ليكون بين العنقاء والغول من المستحيلات، وإن حاولت يوماً أن تصطفي وتغربل فلن يقع بين يديك محسنٌ وقد غاب عنك وغرب ليغرد على جوالك كل حين سائلاً عن الأحوال مرتاحاً كنت أو متعباً، ويا ليته قريب لكان مجيباً طوعياً، فذاك من دروس الحياة وما خضناه بتجربة، وإن لحق أحدهم بك القول (ربّ أخ لم تلده أمك) سرعان ما يحضر في بالك أناس زرعوا في نفسك الأمل والحلم، ومشوا برفقتك دروب الحياة بشمسها وبللها ووجعها، فهي أيام وفصول وأبواب في كتاب رسمها أصدقاء أوفياء وأقلاء، فماذا في تجارب ناسنا اليوم؟

* أحمد ومنذر، لم يذكر أحد بينهما أي أخ من أبيه وأمه في الحديث، وهما جريحان يتكئان على بعضهما، يضحكان معاً ويعبسان في آن واحد، أشارا بصوت واحد خرج من حلقيهما في وقت واحد أنهما ولدا في يوم واحد في اليوم الذي يلي حفل رأس السنة، وأكدا أنهما جاران ويسكنان في البناء نفسه و(الباب ع الباب)، وقد كبرا مع بعضهما ليصبحا صديقين يترافقان طريق المدرسة ويلعبان في الأزقة وشوارع الحي، ويتشاركان الحلوى وسكبات الطعام كل حين ومناسبة، حصلا على الشهادة الإعدادية في ذات العام، وقد شبّا والتحقا بالخدمة الإلزامية وكانا معاً في كل المعارك وميادين قتال الإرهابيين، حتى أنهما أصيبا بالمعركة ذاتها ونقلا معاً إلى المشفى، حيث فقد أحمد بإصابته قدمه اليمنى ومنذر فقد يده اليسرى وبصره، وكان كل منهما يطمئن على الآخر كل وقت يكون فيه صاحياً ولو اشتد به الألم ولطالما جلس كل منهما بجانب الآخر لرعايته بعد خروجه من الجراحة وغرفة العمليات، ليكون أحمد عيون منذر الذي استند عليه بلا قدم وسار به في أروقة المشفى وحديقتها يقهقهان ويتذكران عبثهما وشغبهما أيام الطفولة والدراسة وبعض الأحيان يرتفع صوتهما ويتشاجران كما أيام زمان فيلتفت إليهما رفاقهما كتنبيه وعائلتهما لم تخبرا شيئاً لما جرى لهما وطوي الأمر بهما لأكثر من سنة ولما جاء إخوة منذر ليطمئنوا عليه ويجلسوا بجانبه رفض طلبهم وأمرهم بالرحيل فلطالما كان بجانبه رفيقه ولم يفارقه ويتقاسمان الأوجاع وهو خير أخ.
* زهير، موظف في الأربعين من العمر: ليس أنبل وأروع من أن تنطق بكلمة (آخ) فتجده قربك، في أحد الأيام تعرضت لحادث سير أليم واحتجت عندها للدم بسبب النزيف، أخي من صلبي ابن أمي وأبي لا أعرف لماذا تحاشى الأمر وامتنع عنه وتعذر لنفسه بأسباب، فما كان من صديقي فراس الذي كنت أحسبه رفيقاً إلا أن هب إلى بنك الدم وتبرع لأجلي بدمه ليسري في جسدي نابضاً بالحياة، وهو قد هزل وضعف بعد أن أفرط في تبرعه لأجلي، كما جلس بجواري يقويني على جراحي، ومن يومها أصبحنا إخوة يسري في عروقنا دم واحد، فما أجمل من أخ .
* أبو علاء: أشار إلى أن الإنسان بطبعه اجتماعي ويحب العشرة وبفطرته يبحث عن الأصدقاء بين المقربين والجيران الذين يمكن أن نجدهم جانبنا وقت الشدة، وقد ترك بعضهم أثراً كبيراً بفقدانهم في الحرب التي ابتلعتهم، لكن رب أخ لم تلده أمك مثل يضرب في الشهامة والأصالة التي وجدتها في رفيقتي بالجامعة حيث ساعدتني بدروسي ومدتني بما يلزم لأتابع مرحلة الجامعة من محاضرات وقرطاسية وغيرها دون مقابل أو أجر، تزوجت ووقفت بجانبها كالأخ وهي بدورها فعلت نفس الأمر حين تزوجت، واليوم ننتظر أولاداً عسى أن يكونوا خير الأصدقاء.
* هبة، لطالما صادفنا في دروب الحياة أناساً ونادينا بأحدهم (كن صديقي) فكلنا يحتاج لصديق صدوق يأمنه ويخفف عنه وطأة الحياة ومشاقها، وخاصة في هذه الأيام التي زادت بتكلفها وتكلفتها وضيقت علينا بأوجه الحياة وتدرنت فيها الأوجاع، لنفرغ له ما في صدرنا باطمئنان، لكن ذلك من المستحيل فالصداقة اليوم تشوهت بالمصالح الشخصية والأنانية وصبغتها تقنيات العصر التي استهلكت منا الروح وليس فينا بريء.
كنت أحسب نفسي قد فزت بهذه الحياة بأصدقاء، ولكن خاب ظني ومات الأمل ودفنت الرجاء فيهم، عندما كنت ذات يوم في عز وفرح ولهو كانوا مني الأقرباء، صدقتهم وقد استنزفوا مشاعري وتعلق القلب بهم لينسلوا في نفسي كالوباء، ولما وقعت في الألم والحزن ابتعدوا ولم يسألوا عني وتركوني في العزاء، وحيدة في بؤسي وضعفي لأواسي نفسي بأنها (الحياة) فأضحك تحت قبة نفسي وأرفع بصوتي لأسمعه صدق المتنبي حين قال:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفاً فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا
في دراسات خبراء علم الاجتماع ترى أن الصداقة هي أحدث وسائل اكتشاف النفس، فهي المرآة وبصورة تلقائية تعكس صورنا.
وفي مكان آخر فيها يقولون: نجد أن معظم الأشخاص الناجحين في أماكن عملهم يتسمون بالكياسة واللباقة واللطف، إلا أنهم نادراً ما يجدون الصديق الصدوق المقرب منهم في مجال عملهم، ويرجع ذلك للتنافس الذي لا يمكن أن تنفذ منه وتخترقه الثقة التي تبنى عليها الصداقة الحقة، والتي تأتي بالنية الطيبة والمودة والوفاء والصدق الخالص (فتصور يا رعاك الله).

هدى سلوم- معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار