شـــــتوية.. وكنــــزة صــــــوف

العـــــدد 9490

الإثنين 16 كانون الأول 2019

 

هذه الأيام الباردة التي تلّبدت فيها غيوم الحاجة، وتبلدت حيلنا، وتراكمت ثلوج العوز على أبوابنا كان لنا أن نفكر بشتى الطرق لإزاحتها، والخروج من عروتها بكنزة صوف تكسو عرينا وتمنحنا الدفء.
لا أركن مرة في حجر أريكتي في المساء إلا وتأتي ذاكرتي عليّ بصور أمي وجاراتها في لمة الصباح الضحوك مع فنجان القهوة الممسوك بخيط صوف أمام مدفأة الشتاء، جميعهن برداء صوفي جميل (فساتين وجاكيتات وحتى جوارب وكفوف من صنع أيديهن) فلا خوف عليهن ولا هم يبردن أو يحتجن، وكبة الصوف قد أمسكها صغير يلفها على يديه ويضربها أرضاً ويجري وراءها فرحاً إلى أن ينام، كن يتفاخرن بنسجهن ويتنافسن بالجودة والجمالية التي أتقن حياكتها بكل مهارة وفن وذوق، ليكون في بيت كل منهن السحر والجمال فكل غطاء ورداء مزدان بالنقوش والرسوم كلوحة فنية ساحرة تجذب الأنظار، لقد كانت تجيد كل الحرف والصناعات وكل طالب فتاة للزواج كانت شروطه تستلزمها بذلك، تخيط وتحيك وتغسل وتطبخ ولا يسمع منها كلمة أف أو آه، واليوم تذهب لعملها وتتسلى في أوقاته والغسالة تغسل والجلاية تنظف الصحون والشغالة بالبيت ولا خياطة ولا صوف وتعلو أصواتها بالتأفف والآهات والأوجاع، والبرد يهلك مفاصلها وكنزة الصوف بالسوق بالآلاف.
صيحات الماضي تعود بكنزة صوف تغالب فيها هذا الشتاء القارس ولو كان السوق يعج بها بموديلات وموضة هذا العصر التقني وحتى نسجناها بصوف قديم، فاليوم غلاء شره استطار بنا ودفعنا للتفكير ملياً في الخروج من مآزقنا والحاجة أم الاختراع (رجعنالك يا ستي) غرز وقطب تزيح قطب الجبين وتستطيب القلب.
* أم شام تؤكد أنه لم يعد بيدها حيلة لتلبية حاجات أولادها وضروريات كل فصل وموسم ومن أهمها الثياب التي تلتهم راتب زوجها المسقوم بنهم شديد، وهو ما يدفعها لسوق البالة لتأتي بكنزات صوف حبذا لو يكون سعرها قليلاً وصوفها جيداً وجديداً (لكرّه) وإعادة إحيائه وبث الروح فيه بكنزة ليس كمثلها في السوق، وتقول: لقد تعلمت حياكة الصوف مع فريق بناء المهارات وصنعت العديد من الجوارب والشالات والكنزات وغيرها من مفارش لأثاث البيت وغرفه أولها حظي بها أهل بيتي وغيرها بعتها في المعارض وحسب الطلبيات التي تأتيني من الجارات ومعارف الصديقات، وبهذا اغتنيت عن السؤال وكففت حاجة عائلتي فلدي خمسة أولاد ونسكن بالآجار، فقط ولدي سليمان الكبير يساعدنا بعمله في ميكانيك السيارات، والحمد لله جبر بخاطرنا ومستورة .
* أم عروة تشير أنها لا تجيد حياكة الصوف ولا وقت لديها لذلك فهي مهندسة وعملها يأخذ نصف نهارها والنص الآخر للبيت والأولاد، كما أن في السوق كل الألوان والأشكال فيها القصير والطويل وقطبها حسب الموضة وليست أسعارها كبيرة كما شلل الصوف والأوزان والكيلوات التي ثمنها يفوق ثمن منتج صوفي في السوق، ولا حاجة للتعب والحياكة(ناقصها كما تقول).

السيدة رند عبد الله : شتوية بلا كنزة صوف (مو مظبوطة)، أعمل في الصوف منذ سنوات عديدة ولا أجد نفسي بغير كبة الصوف والسنارة في يدي، لكن ارتفاع أسعار شلله وكبة منه صغيرة تصل لألف ليرة دفعتني للابتعاد عن شرائه جديداً والتفكير بمكان آخر عنها كأن يكون في البالات، حيث آتي بالكنزات القديمة لأغسلها وأحل خيوطها وأنشفها ثم أعيد صياغتها من جديد حسب الموضة المطروحة بمنتجات الصوف في سوق جبلة.
* السيدة بدور ونوس، موظفة: الصوف والسنارة حكاية عشق قديمة تتداولها النساء في كل زمان ومكان، وتلازمنا طوال أيام الشتاء ولها طقوسها وسهراتها المميزة الدافئة ولا تكتمل بغير إنهاء ما بيدها من الصوف، لكن هذه الصورة تلاشت منذ فترة ليست قصيرة لتوفر آلات الحياكة والألبسة بالسوق وبأسعار مقبولة قياساً بسعر كبة الصوف، لكني ما زلت أحب الصوف ولهذا أعيد نسج ما عند أولادي من ملابس صوفية وأشكلها بكفوف وجوارب وكنزات حسب توفرها وحجمها وأضيف عليها الدانتيل والأزرار لتشابه ما في السوق الذي زرته قبل أن أبدأ بها ونقلت ما عليها من قطب وغرز ترضي أذواق الأولاد وزوجي المصون.
* رهف طالبة جامعية تقول إنها تحب رؤية أمها وهي جالسة في مقعدها تنسج الصوف وقد اعتادت عليها بهذه الهيئة وعلى هذا العمل، وهي تلبس مما تنجزه يداها أجمل الكنزات وكل رفيقاتها يسألنه عنها، وهي فخورة بوالدتها صاحبة اليدين الجميلتين.
* السيدة هدى كوراني، مدرسة متقاعدة إدلب تعمل في مركز المساحات الآمنة على تدريب الفتيات لحياكة الصوف، فهي لطالما أحبت شغل الصوف بسنارتين في أوقات فراغها إن كان صيفاً أو شتاء لأجل أولادها، كما أنها تجيد الشغل بخمس سنارات لأجل نسج مفارش الأسرة والطاولات الكبيرة، بالإضافة إلى شغلها في الكروشيه والكنفة فقد علمتها كل ذلك والدتها ولم يكن عمرها قد تجاوز ست سنوات، فالفتاة يجب عليها أن تتعلم صناعة كل شيء في بيت أهلها، وتؤكد أنها مهن لا يخفيها ضباب الأيام، بل تتجدد وتزداد رونقاً بيد من تحتاجها لغدر الزمان، وفيها ما يرد السؤال، كما أنها تبعد ناسها عن الثرثرة واستغلال أوقات الفراغ بما هو مفيد وجدير بالاهتمام، وأيضاً شغل الصوف لا يشكل عبئاً على متقناته إذا ما أردن العمل فلا يحتجن لسيولة مالية، ولا حتى لوازم ومعدات مثل الكوافيرة أو الخياطة غير سنارة تحيك بها بكل سهولة وليونة ثوب كرامة تغنيها عن السؤال.
(الدفا من عنا) ولا يحلو بغير كنزة الصوف من كبارنا، حيث انطلقت حملة (دفيني) من جمعية كبارنا لشتاء2020 بملابس وأيضاً أحذية شتوية، يحيكون بقصص فعالياتهم وخيوط أعمالهم من دفء قلوبهم ما يكسو القلب فرحاً وسروراً وكل شتوية وأنتم بخير وكنزة صوف.

هدى سلوم – معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار